الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب الخشوع في الصلاة

          ░88▒ (بَابُ الخُشُوعِ) أي: طلبهُ (فِي الصَّلَاةِ) فرضاً كانت أو نفلاً، وسقط لفظ: <باب> لأبي ذرٍّ، ووجهُ مناسبة هذا الباب لسابقه: أن وضع اليمنى على اليسرى المترجم به في السابق صفة السَّائل الذَّليلِ، وهي أقربُ إلى الخشوع وأمنعُ من العبثِ الذي يذهبُ بالخشوع.
          بل قال قتادة: الخشوعُ هو وضع اليمينِ على الشِّمال في الصلاة.
          وهو بضم الخاء، مصدر خشع كمنع، ومعناهُ لغةً: الخضوعُ كالاختشاع، أو قريبٌ من الخضوعِ أو هو في البدن، والخشوع في الصَّوت والبصر والسُّكون والتذلُّلِ، واصطلاحاً _كما قال كثيرون_ معنى يقوم بالنَّفس يظهرُ عنه سكونٌ في الأطراف يلائم مقصودَ العبادة.
          وحكى الرَّازي في ((تفسيره)): أنه تارةً يكون من فعل القلب، وتارةً من فعل البدنِ كالسُّكون في الأعضاء، وقيل: لا بدَّ من اعتبارهما، وفسَّر بعضهم الخشُوعَ بالقلب بأن لا يحضُر فيه غير ما هو فيه وإن تعلَّق بالآخرة، وبالجوارح أن لا يعبَثَ بأحدها.
          وقال عليٌّ ☺: الخشوعُ في القلب وأن تليِّنَ للمسلم كنفكَ ولا تلتفت في الصَّلاة.
          وقال مجاهدٌ: هو غضُّ البصر وخفضُ الجناح، وقال ابن سيرين: أن لا ترفع بصركَ عن موضعِ سجودك.
          وقال عمرو بن دينار: هو السُّكون وحسنُ الهيئة في الصَّلاة، وقيل: هو جمعُ الهمَّة للصَّلاة والإعراض عمَّا سواها.
          وقال أبو بكرٍ الواسطي: الخشوعُ: هو الصَّلاة لله تعالى على الخلوصِ من غير عِوَضٍ.
          قال في ((الفتح)): ويدلُّ على أنه من عمل القلب ما أخرجهُ الحاكم من حديث عليٍّ: الخشوعُ في القلب، وأما الحديث أي: الذي رواهُ الحكيم التِّرمذيُّ عن أبي هريرة بسندٍ ضعيفٍ: ((لو خشَعَ هذا خشعَتْ جوارحُهُ))، ففيه إشارةٌ إلى أن الظَّاهر عنوان الباطنِ.
          وقال ابنُ أبي الورد: يحتاجُ المصلِّي إلى أربعِ خلالٍ حتى يكونَ خاشعاً: إعظامُ المقام، وإخلاصُ الكلام، واليقين التَّام، وجمع الهمَّةِ على الدَّوام.
          وقال ابنُ رجبٍ: أصلُ الخشُوع خشوع القلبِ، وهو انكسَارهُ لله تعالى وخضُوعُهُ وسكونه عن التفاتِهِ إلى غير من هو بين يديه، فإذا خشعَ القلبُ خشعَتِ الجوارح كلُّها تبعاً لخشُوعه، ولهذا كان النَّبيُّ صلعم يقول في ركوعهِ: ((خشَعَ لك سمعِي وبصرِي ومُخِّي وعظمِي وما استقلَّتْ به قَدَمي)).
          ومن جملةِ خشُوع الجوارح: خشوعُ البصر، بأن لا يلتفتَ عن يمينه أو يسَاره، وسيأتي حديثُ الالتفَات في الصَّلاة، وأنَّه اختلاسٌ يختلسُه الشَّيطان من صلاة العبد، وقال ابنُ سيرين: كان / رسولُ الله صلعم يلتفتُ عن يمينه وعن يسارهِ، فأنزلَ الله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ. الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون:1-2]، فخشع رسولُ الله صلعم، ولم يكن يلتفتُ يمنةً ولا يسرةً.
          وخرَّجهُ الطبرانيُّ من رواية ابن سيرين عن أبي هُريرة، والمرسل أصحُّ، انتهى.
          نعم روى البيهقيُّ عن عَمرو بن حريثٍ: ((أن رسولَ الله صلعم ربَّما كان يمسُّ لحيته وهو يصلِّي))، ويحتملُ أنَّه قبل النَّهي أو فعله بياناً للجواز.
          وفي ((صحيح مسلم)) من حديث جابرِ بن سمُرة: ((اسكنوا في الصَّلاة))، وفيه أيضاً: ((ما من مسلمٍ يتوضَّأ فيُحسِن وضوءهُ ثمَّ يقوم فيُصلِّي ركعتين يقبل عليهما بقلبِهِ ووجهِهِ إلا وجبَتْ له الجنَّةُ))، وفيه أيضاً في آخر حديث: ((إن قام فصلَّى فحمدَ الله وأثنى عليه ومجَّده بالذي هو أهلهُ وفرغ قلبهُ لله إلا انصرَفَ من خطيئَتِهِ كيومِ ولدَتهُ أمُّهُ)).
          تنبيه: الخشوعُ في الصَّلاة سنَّةٌ عند الجمهور، بل نُقِل الإجماعُ على ذلك _كما سيأتي بما فيه_ وذهب بعض العُلماءِ إلى اشتراطه في جزءٍ منها.
          وعليه الغزاليُّ في ((الإحياء)) فإنه قال فيه بعد كلامٍ طويلٍ: وإذا لم يمكن الاستيعابُ للضَّرورة فلا مردَّ له أن يشترطَ فيه ما ينطلق عليه الاسمُ، ولو في لحظةٍ واحدةٍ، وأولى اللَّحظات به التَّكبير فاقتصرنا على التَّكليف بذلك، انتهى.
          وقال بعضُهم: حسب الإنسان أن يُقبِلَ على صلاته بقلبِهِ ونيَّته، ويريدُ بذلك وجه الله تعالى، ولا طاقةَ له فيما يعترضُهُ من الخواطِرِ، وقد ورد عن عُمر ☺ أنَّه قال: إني لأجهِّز جيشي في الصَّلاة، وعنه أيضاً أنَّه قال: إني لأحتسبُ جزية البحرينِ وأنا في صلاتي.
          وقال ابنُ حجر في ((التحفة)): ولنا وجهٌ اختاره جمع: أن الخشُوعَ شرطٌ لصحَّة الصلاة، لكن في بعضها فيكره، وقيل: يحرمُ الاسترسال مع حديث النَّفس والعبثِ، كتسوية ردائهِ وعمامتهِ لغير ضرورةٍ من تحصيل سنَّةٍ أو دفع مضرَّةٍ، وفي الخبر: ((ليس للمرءِ من صلاتِهِ إلا ما عقل))، وبه يتأيَّدُ قول من قال: إن حديث النَّفس الاختياري أو الاسترسال مع الاضطراريِّ يُبطِلُ الثَّواب.
          وقولُ القاضي: يكره أن يتفكَّر في أمرٍ دنيويٍّ أو مسألةٍ فقهيَّةٍ، ولا ينافيه أن عمر كان يجهِّز الجيش في صلاته؛ لأنه مذهبٌ له، أو اضطرَّه الأمرُ إلى ذلك، على أن ابنَ الرفعة اختارَ أن التَّفكُّر في أمورِ الآخرة لا بأسَ به، إلا أن يريدَ بلا بأس عدم الحرمَةِ، فيوافق ما مرَّ، انتهى مفرَّقاً.
          وقال العينيُّ: ومما يحصلُ الخشوعُ استحضارهُ أنه بين يدي ملكِ الملوك، الذي يعلم السِّرَّ وأخفَى يناجيه، وأنه ربما يتجلَّى عليه بالقهرِ لعدم قيامِهِ بحقِّ ربُوبيته، فيردُّ عليه صَلاته ويعرضُ عنه.
          وقد رويَ: أن محرابَ داود عليه الصَّلاة والسَّلام كان مكتوباً فيه أيُّها المصلِّي من أنت؟ وبين يدي من أنت؟ ومن تناجي؟ ومن يسمع كلامك؟ ومن ينظُرُ إليك؟ ولا شكَّ أن الصلاة صلةُ العبد بربِّهِ، / فمَن تحقَّق بالصِّلة لمعت له طوالعُ التَّجلِّي فليخشعْ.
          وقال في ((الإحياء)): رويَ عن الله تعالى في الكتبِ السَّالفةِ أنه قال: ليس كلُّ مصَلٍ أتقبَّلُ صلاته، إنما أقبلُ صلاة من تواضعَ لعظمَتي، ولم يتكبَّر عليَّ، وأطعم الفقيرَ الجائعَ لوجهِي، وقال فيه أيضاً: ويروى عن ابن عبَّاس أنه قال: قال داودُ عليه الصَّلاة والسَّلام: إلهي من يسكُنُ بيتك وممَّن تقبلُ الصَّلاة؟ فأوحَى الله إليه: يا داود، إنما يسكُن بيتي وأتقبَّل الصَّلاة ممن تواضَعَ لعظمتي، وقطعَ نهاره بذكري، وكفَّ لسانَهُ عن الشَّهواتِ من أجلي، يطعِمُ الجائِعَ، ويؤوي الغريبَ، ويرحَمُ المُصَاب، فذاك الذي يضيءُ نوره في السَّماء كالشَّمس، إذا دعاني لبيته، وإن سألني أعطيتُه، أجعلُ له في الجهلِ حِلماً وفي الغفلة ذِكراً، وفي الظُّلمة نوراً، وإنما مثله في النَّاس كالفِردَوسِ في الجنانِ لا تيبسُ أنهارها ولا تتغيَّرُ ثمارها، انتهى.
          واعلم أنه قد وردَ في الحثِّ على الخشوعِ آياتٌ منيفةٌ وأحاديث شريفةٌ وحكايات لطيفةٌ، فمن الآيات: قوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ. الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون:1-2].
          قال ابن عبَّاس: مخبتون أذلَّاء، وقال الحسنُ: خائفُونَ، وقال مقاتل: متواضعون.
          ومنها: قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} [النساء:43].
          قال في ((الإحياء)): قيل: {سُكَارَى} من كثرةِ الهمِّ، وقيل: من حبِّ الدُّنيا، وقال وهبٌ: المراد به ظاهره، ففيه تنبيهٌ على سكر الدُّنيا إذ بيَّن فيه العلَّة، فقال: {حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} وكم من مصلٍّ لم يشرب الخمرَ وهو لا يعلم ما يقولُ في صلاته؟.
          ومنها: قوله تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} [طه:14].
          قال البيضاويُّ: خصَّ الصَّلاة بالذكر وأفردها بالأمرِ للعلَّةِ التي أناطَ بها إقامتها، وهو تذكُّر المعبود، وشغل القلب واللِّسان بذكره، وقيل: {لِذِكْرِي} لأني ذكرتها في الكتب، وأمرتُ بها، أو لأن أذكرك بالثَّناء أو لذكري خاصَّةً لا ترائي بها ولا تشوبها بذكر غيري، وقيل: لأوقات ذكري، وهي مواقيتُ الصَّلاة، أو لذكر صلاتي لما روي أنَّه عليه الصَّلاة والسَّلام قال: ((مَن نام عن صلاةٍ أو نسيَها فليَقضِها إذا ذكرَها، إنَّ الله تعالى يقول: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي})) انتهى.
          وأما الأحاديثُ: فمنها ما تقدَّم من الحديثين اللَّذين ذكرناهما عن ((الفتح))، ومنها: ما رويَ عن ابن عبَّاس: ركعتانِ مقتصِدَتان في تفكُّرٍ خيرٌ من قيام ليلةٍ والقلبُ ساهٍ.
          وأما الحكاياتُ، فمنها: ما مرَّ مما هو مكتوبٌ في محرابِ داود عليه الصَّلاة والسَّلام، ومنها: ما نقلهُ في ((الإحياء)) عن الكتبِ السَّالفة وغير ذلك مما فيه.
          وقال العينيُّ: حكى النَّووي الإجماع على أنَّ الخشُوعَ ليس بواجبٍ، وأوردَ عليه قول القاضِي حسين: أن مدافعةَ الأخبثين إذا انتهتْ إلى حدٍّ يذهب معه الخشوعُ أبطلت صلاته، وقاله أيضاً أبو زيد المروزي، قلت: هذا ليس بواردٍ لاحتمال كلامهما في مدافعةٍ شديدةٍ أفضت إلى خروج شيءٍ.
          فإن قلت: البطلانُ حينئذ بالخروجِ لا بالمدافعة؟ قلت: المدافعة سببٌ للخروج، فذكر السَّبب وأراد المسبِّب للمبالغة.
          وأجاب بعضُهم بجوابين غير طائلين:
          أحدهما: قوله لجواز أن يكون بعد الإجماع السَّابق.
          والثاني: قوله: أو المراد بالإجماع أنه لم يصرِّحْ أحدٌ بوجوبه، انتهى كلام العينيِّ.
          وأقول: لا يخفى بعد جوابه، بل قد يتوقَّف في صحته، / فإنَّ الإيراد يفيد أن الإبطال بالمدافعة من حيث أنَّها انتهت إلى حدٍّ يذهب معهُ الخشوع، فالعلَّةُ للإبطال المدافعة لا غير، فتدبَّر.
          ولم يبيِّن وجه كون الجوابين غير طائلين، ولعلَّ وجه الأول: ما تقرَّر واشتُهِر أنه لا يجوز خرقُ الإجماع، ولم يفرِّقوا بين الإجماع السَّابق واللاحق.
          وأما الثاني: فلما قاله في ((الإحياء)): لا يمكن أن يدعى الإجماع، فقد نقلَ عن الثوري أنه قال: من لم يخشع فسُدَت صلاته، ومثله عن الحسن البصري ومعاذ بن جبل.
          بل لما نقله في ((الفتح)) أيضاً عن المحبِّ الطَّبري أنه حكى أن الخشوع شرطٌ لصحَّة الصلاة، لكن في الجملةِ لا في جميعها.
          وقال فيه: والخلافُ في ذلك عند الحنابلة أيضاً، بل وقد يفيده كلام المالكيَّة؛ فإن ابن بطَّال قال: فإن قال قائلٌ: فإن الخشوع فرضٌ في الصلاة؟ قيل له: بحسب الإنسان أن يقبل على صلاته بقلبه ونيَّتهِ ويريدُ بذلك وجه الله تعالى، ولا طاقةَ له بما اعترضه من الخواطرِ، فهذا القدرُ من الخشوع هو الذي يجب.
          نعم أنكر ابن المنير إطلاق الفرضيَّة، وقال: الصَّوابُ أن عدم الخشوع تابعٌ لما يظهر عنه من الآثار، وهو أمرٌ متفاوتٌ، فإن آثر نقصاً في الواجبات كان حراماً، وكان الخشوعُ واجباً، وإلا فلا، انتهى.
          وأقول: قد يجاب عن أصل الإيراد بأن الناقل للإجماعِ لم يلتفتْ لمن خالف فيه لقلَّته، وبأن النَّووي حكاه عن الغير، والحاكي ليس عليه إلا تصحيحُ النقل، وهو ثابتٌ قطعاً لما مر في ((الإحياء)) ولقول ابن رجبٍ، وقد حكى ابن حزم وغيرهُ الإجماع على ذلك، وخالف فيه بعضُ المتأخِّرين من أصحابنا والشَّافعية، انتهى.
          وقد نظرَ في كلام النووي في ((شرح التقريب)) فقال: وفيه نظرٌ فقد روينا في كتاب ((الزهد)) لابن المبارك عن عمار بن ياسرٍ أنَّه قال: لا يُكتب للرَّجل من صلاتهِ ما سهى عنه، وفي كلام غير واحدٍ من العلماء ما يقتضي وجوبه، انتهى.
          بل أقول أيضاً: إنه لا يردُّ على النَّووي، لقول ((الفتح)) عنه: إن هذا الخشوعَ ليس بواجبٍ إجماعاً، فلعل المنفيَّ في كلامه هو خشوعٌ خاصٌّ، فلا إيراد، وليجابَ عنه، فتدبَّر.