الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب الدعاء قبل السلام

          ░149▒ (بَابُ الدُّعَاءِ قَبْلَ السَّلام) وللأصيلي: <قبل التَّسليم> أي: وبعد التشهُّد كما يتبادرُ من ترتيب المصنِّف، نعم حديث البابِ لا تعيينَ فيه.
          لكن يظهر كما في ((الفتح)) أنَّ البخاري أشار إلى ما وردَ في بعض طرقهِ من تعيينه، ففي بعضِ طرق حديثِ ابن مسعودٍ بعد ذكر التشهُّد: ((ثمَّ ليتخيَّر من الدُّعاء ما شاء))، وفي مسلمٍ عن أبي هريرةَ مرفوعاً: ((إذا تشهَّد أحدكم فليقل))، فذكر نحوه.
          وفي روايةٍ له: ((إذا فرغَ أحدكم من التشهُّد الأخير فليقل))، فذكر نحوَ حديث البابِ، وفي روايةٍ له عنه: ((إذا تشهَّد أحدكم فليستعذْ بالله من أربعٍ، يقول: اللَّهمَّ إنِّي أعوذ بكَ من عذاب جهنَّم، ومن عذاب القبرِ، ومن فتنة المحيا والمماتِ، ومن فتنةِ المسيح الدَّجال))، وفي ابن ماجه: ((إذا فرغَ أحدكم من التشهُّد الأخيرِ فليتعوَّذ من أربعٍ)) الحديث، والأحاديث يفسِّر بعضها بعضاً.
          وأمَّا جواب الكرمانيِّ: بأنَّ لكل مقام ذكراً مخصوصاً فتعيَّن أن يكون محلُّه بعد الفراغِ من الكلِّ، وهو آخر الصَّلاة فنظر فيه في ((الفتح)): بأنَّ التعيُّن الذي ادَّعاه لا يختصُّ بهذا المحل لورود الأمرِ بالدُّعاء في السُّجود، مع أنَّ له ذكراً مخصوصاً، فلا تعيُّن له بالجلوسِ في آخر الصَّلاة، وانتصار العينيِّ له غير ناصرٍ لمن تأمَّل وأنصف، فتأمَّل.
          ثمَّ رأيته قال في ((الانتقاض)): فلينظر النَّاظر... إلخ.
          وقال شيخ الإسلام: ((بابُ الدُّعاء قبل السَّلام)) أي: وبعد التشهُّد والصَّلاة على محمَّد وآله انتهى.
          ولم يتعرَّض المصنِّف للصَّلاة على النَّبي وآله في التشهُّد؛ أي: وإلَّا فهي داخلةٌ فيه، ولعلَّه لعدم وجودهِ فيها حديثاً على شرطهِ، ولا يعلم من ذلكَ أن مذهبه فيها الوجوبُ أو السنيَّة، ولعلَّه السنية، والمشهور فيها أنَّها ليست بفرضٍ فيه عند الجمهورِ، منهم الأئمَّة الثَّلاثة، وقال الشَّافعي بفرضيَّتها فيه عقبَ التشهُّد الذي يعقبهُ السَّلام.
          وعبارة ((التُّحفة)) و((المنهاج)): والصَّلاة على النَّبي صلعم مع قعودهَا فرض في التشهُّد يعني: بعدهُ، فلا تجزئ قبلهُ خلافاً لجمعٍ، الآخر: يعني: الواقع آخر الصَّلاة، وإن لم يسبقهُ تشهُّد آخر كتشهُّد صبحٍ وجمعةٍ ومقصورةٍ، وذلك للأخبارِ الصَّحيحة الدَّالة على ذلك، بل بعضها مصرَّح به كما بسطته في عدَّة كتب، لا سيَّما في ((شرح العباب)) و((الدُّر المنضود))، مع الرَّدِّ على من زعم شذوذَ الشَّافعي بإيجابهَا. انتهى.
          وقال الرَّملي: والأصل في فرضيَّتها قوله تعالى: {صَلُّوا عَلَيْهِ} [الأحزاب:56]، وأجمع العلماءُ على عدمِ وجوبهَا في غير الصَّلاة فتعيَّن وجوبها فيها، والقائلُ بوجوبها مرَّة في غيرها محجوجٌ بالإجماعِ، والقائل بهِ لم ينظر لقولِ الحليميِّ وجمع به، ومع تسليمِ صحَّته فلا مانعَ من وجوبها فيها لدليلينِ.
          وصحَّ: أمرنا الله أن نصلِّي عليك فكيف نصلِّي عليكَ إذا نحن صلَّينا عليك في صلاتنَا؟ فقال: ((قولوا: اللَّهمَّ صلِّ على محمَّد، وعلى آل محمَّد، كما صلَّيت / على إبراهيم... إلخ))، وخرَّج الزَّائد على الصَّلاة عليه هنا، وفيما يأتي بالإجماعِ فيبقى وجوبهَا.
          وصحَّ: ((إذا صلَّى أحدكم فليبدأ بحمدِ ربِّه والثَّناء عليه، وليصلِّ على النَّبي صلعم وليدع بما شاءَ من الدُّعاء))، وصحَّ عن ابن مسعودٍ مرفوعاً: ((يتشهَّد الرَّجل في الصَّلاة، ثمَّ يصلِّي على النَّبي صلعم، ثمَّ يدعو لنفسهِ بعد))، ففيه دلالةٌ على وجوبهَا ومحلِّها، وروى أبو عوانةَ عنه صلعم أنَّه فعلها في تشهُّده الأخيرِ، ولم يثبت أنَّه تركها فيه.
          فمن ادَّعى أن الشَّافعي شذَّ حيث أوجبها، ولا سلفَ له في سنَّة في ذلك يتبعها فقد غلطَ إذ إيجابها لم يخالف نصاً ولا إجماعاً ولا قياساً ولا مصلحةً راجحةً، بل وافقَه على قولهِ عدَّة من أكابرِ الصَّحابة فمن بعدهم، كعمر وابنه عبد الله، وابن مسعودٍ وأبي مسعود البدريِّ وجابر بن عبد الله من الصَّحابة، وكمحمَّد بن كعب القرطبيِّ والشَّعبي ومقاتل من التَّابعين، وهو قولُ أحمد الأخير وإسحاق، وقولٌ لمالكٍ، واعتمده ابن الموَّاز من أصحابهِ وصحَّحه ابن الحاجبِ في ((مختصره)) وابن الهنديِّ في ((سراج المريدين))، فهؤلاء كلُّهم يوجبونها في التشهُّد، حتَّى قال بعض المحقِّقين: لو سلم تفرُّده بذلك لكان حبذا التَّفرد. انتهى.
          وأما الصَّلاة على الآل فالصَّحيح: أنَّها سنَّة، وقيل واجبة، وعليه قوله: من لم يصلِّ عليكم لا صلاةَ له.
          وقال في ((فتح الباري)) في الباب الآتي: وقال الشَّافعيُّ بوجوبِ الصَّلاة على النَّبي صلعم بعد التشهُّد، وادَّعى أبو الطَّيِّب الطَّبري من أتباعه، والطَّحاوي وآخرون بأنَّه لم يسبق إلى ذلك، واستدلُّوا على ندبيَّتها بحديثِ الباب، مع دعوى الإجماعِ، وفيه نظر؛ لأنَّه ورد عن أبي جعفر الباقر والشَّعبي وغيرهما ما يدلُّ على القولِ بالوجوب، وأعجبُ من ذلك أنَّه صحَّ عن ابن مسعودٍ راوي حديث البابِ ما يقتضيه.
          وذكر الحديث الذي ذكرناهُ عن الرَّملي بقولهِ: وصحَّ عن ابن مسعودٍ مرفوعاً لكنه قال: قال عبد الله: يتشهَّد الرَّجل... إلخ، وظاهره أنَّه موقوفٌ، فتدبَّر.
          ووافق الشَّافعي أحمد في إحدى الرِّوايتين عنه، وبعض أصحابِ مالك، وقال إسحاقُ بن راهويه أيضاً بالوجوبِ، لكن قال: إن تركها ناسياً رجوتُ أن يجزئه، فقيل: إنَّ له في المسألةِ قولين كأحمدَ، وقيل: بل كان يراهَا واجبةً لا شرطاً، ومنهم من قيَّد تفرُّد الشَّافعي بكونه عينها بعد التشهُّد لا قبله ولا فيه، حتَّى لو صلى على النَّبي صلعم في أثناء التشهُّد لم يجز عنده. انتهى.