شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب فضل مكة وبنيانها

          ░42▒ باب: فَضْلِ مَكَّةَ وَبُنْيَانِهَا.
          وَقَوْلِهِ تعالى: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا}(1) إلى قوله: {إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ}[البقرة:125-128].
          فيه: جَابِرٌ: (لَمَّا بُنِيَتِ الْكَعْبَةُ ذَهَبَ النَّبيُّ صلعم وَالعَبَّاسُ(2) يَنْقُلانِ الْحِجَارَةَ، فَقَالَ الْعَبَّاسُ لِلنَّبِيِّ صلعم: اجْعَلْ إِزَارَكَ على رَقَبَتِكَ، فَخَرَّ إلى(3) الأرْضِ، فَطَمَحَتْ عَيْنَاهُ إلى السَّمَاءِ، فَقَالَ: إِزَارِي إِزَارِي فَشَدَّهُ عَلَيْهِ). [خ¦1582]
          وفيه: عَائِشَةُ(4): أَنَّ النَّبيَّ صلعم قَالَ لَهَا: (أَلَمْ تَرَيْ أَنَّ(5) قَوْمَكِ حِينَ بَنَوُا الْكَعْبَةَ اقْتَصَرُوا على قَوَاعِدِ إِبْرَاهِيمَ؟ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَلا تَرُدُّهَا على قَوَاعِدِ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: لَوْلا حِدْثَانُ قَوْمِكِ بِالْكُفْرِ لَفَعَلْتُ، فَقَالَ عبد اللهِ(6): لَئِنْ كَانَتْ عَائِشَةُ سَمِعَتْ هَذَا مِنْ رَسُولِ اللهِ صلعم مَا أُرَى رَسُولَ اللهِ صلعم تَرَكَ اسْتِلامَ الرُّكْنَيْنِ اللَّذَيْنِ يَلِيَانِ الْحِجْرَ إِلَّا أَنَّ الْبَيْتَ لَمْ يُتَمَّمْ على قَوَاعِدِ إِبْرَاهِيمَ). [خ¦1583]
          وفيه(7) عَائِشَةُ: (سَأَلْتُ النَبيَّ صلعم عَنِ الْجِدْارِ مِنَ(8) الْبَيْتِ هُوَ؟ قَالَ: نَعَمْ، قُلْتُ: فَمَا لَهُمْ لَمْ(9) يُدْخِلُوهُ في الْبَيْتِ؟ قَالَ: إِنَّ قَوْمَكِ قد(10) قَصَّرَتْ بِهِمُ النَّفَقَةُ، قُلْتُ(11): فَمَا شَأْنُ بَابِهِ مُرْتَفِعًا؟ قَالَ: فَعَلَ(12) ذَلِكَ قَوْمُكِ لِيُدْخِلُوا مَنْ شَاؤُوا، وَيَمْنَعُوا مَنْ شَاؤُوا، وَلَوْلا أَنَّ قَوْمَكِ حَدِيثٌ عَهْدُهُمْ(13) بِالْجَاهِلِيَّةِ(14)، فَأَخَافُ أَنْ تُنْكِرَ قُلُوبُهُمْ أَنْ أُدْخِلَ الْجَدْرَ بالْبَيْتِ(15) وَأَنْ أُلْصِقَ بَابَهُ بِالأرْضِ). [خ¦1584]
          وقالت: (قالَ(16) صلعم:(17) لأمَرْتُ بِالْبَيْتِ فَهُدِمَ، فَأَدْخَلْتُ فِيهِ مَا أُخْرِجَ مِنْهُ، وَأَلْزَقْتُهُ بِالأرْضِ، وَجَعَلْتُ لَهُ(18) بَابَيْنِ بَابًا شَرْقِيًّا، وَبَابًا غَرْبِيًّا، فَبَلَغْتُ(19) بِهِ أَسَاسَ إِبْرَاهِيمَ، فَذَلِكَ الَّذي حَمَلَ ابْنَ الزُّبَيْرِ على هَدْمِهِ، قَالَ يَزِيدُ: وَشَهِدْتُ ابْنَ الزُّبَيْرِ حِينَ هَدَمَهُ وَبَنَاهُ وَأَدْخَلَ فِيهِ مِنَ الْحِجْرِ، وَقَدْ رَأَيْتُ أَسَاسَ إِبْرَاهِيمَ حِجَارَةً كَأَسْنِمَةِ الإبِلِ.
          قَالَ جَرِيرٌ: فَقُلْتُ لَهُ: أَيْنَ مَوْضِعُهُ؟ قَالَ: أُرِيكَهُ الآنَ، فَدَخَلْتُ مَعَهُ الْحِجْرَ، فَأَشَارَ إلى مَكَانٍ، فَقَالَ: هَاهُنَا، قَالَ جَرِيرٌ(20): فَحَزَرْتُ(21) مِنَ الْحِجْرِ سِتَّةَ أَذْرُعٍ أَوْ نَحْوَهَا). [خ¦1586]
          قال المؤلِّف: قد ذكر الله تعالى فضل مكَّة في غير موضعٍ من كتابه، ومن أعظم فضلها أنَّه تعالى فرض على عباده حجَّها، وألزمهم قصدها، ولم يقبل من أحد صلاة إلَّا باستقبالها، وهي قبلة أهل دينه أحياءً وأمواتًا.
          وفي حديث عائشة معرفة بنيان قريش الكعبة(22)، وقد بناها إبراهيم ◙ قبل ذلك، وقيل: إنَّ آدم ◙ خطَّ البيت قبل إبراهيم، وقد نقل فيه النَّبيُّ ◙ الحجارة مع عمِّه العبَّاس وقريش في الجاهليَّة، وذكر أهل السِّير أنَّ قريشًا لمَّا بنت الكعبة وبلغت موضع الرُّكن اختصمت في الرُّكن، أيُّ القبائل يلي(23) رفعه، فقالوا: تعالوا نحكِّم أوَّل رجل يطلع علينا، فطلع النَّبيُّ صلعم فحكَّموه وسمَّوه الأمين، وكان ذلك الوقت ابن خمس وثلاثين سنة فيما ذكر ابن إسحاق، فأمر بالرُّكن فوُضع في ثوبٍ، ثمَّ أَمَر سَيِّدَ كُلِّ قبيلةٍ فأعطاه ناحيةً من الثَّوب، ثمَّ ارتقى هو فرفعوا إليه الرُّكن فوضعه ◙ بيده، فعجبت قريش من سداد رأيه.
          وكان الَّذي أشار بتحكيم أوَّل رجل يطلع عليهم أبو أميَّة ابن(24) المغيرة، والد أمِّ سلمة زوج النَّبيِّ صلعم، وكان عامئذٍ أسَنَّ قريش كلِّها، وقد ذكر الرَّسول(25) ◙ أنَّه إنَّما امتنع من ردِّه على قواعد إبراهيم خشية إنكار قريش لذلك.
          وفي(26) هذا من الفقه أنَّه يجب اجتناب / ما يُسْرِعُ النَّاس إلى إنكاره وإن كان صوابًا، وقد رُوي أنَّ هارون الرَّشيد ذكر لمالك بن أنس أنَّه يريد هدم ما بناه الحجَّاج من الكعبة، وأن(27) يردَّه إلى بنيان ابن الزُّبير، فقال له(28): ناشدتك الله يا أمير المؤمنين أن لا(29) تجعل هذا البيت ملعبةً للملوك، لا يشاء أحدٌ منهم إلَّا نقض البيت وبناه، فتذهب هيبته من صدور النَّاس. وفي الحديث دليلٌ أنَّ الحِجر من البيت، وإذا كان ذلك فإدخاله واجبٌ في الطَّواف.
          واختلف العلماء فيمن سلك(30) الحِجر في طوافه، فكان عطاء ومالك والشَّافعيُّ وأحمد وأبو ثورٍ يقولون: يبني على ما(31) طاف قبل أن يسلك فيه، ولا يعتدَّ بما طاف في الحجر، وقال أبو حنيفة: إن كان بمكَّة قضى ما بقي عليه، وإن رجع إلى بلده(32) فعليه دمٌ، واحتجَّ المُهَلَّب وأخوه لهذا القول فقالا: إنَّما عليه أن يطوف بما بُني من البيت لأنَّ الحكم للبنيان لا للبقعة، لقوله تعالى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ}[الحج:29]أشار(33) إلى البناء(34)، والبقع(35) دون البناء لا(36) تُسمَّى بيتًا، والنَّبيُّ ◙ إنَّما طاف بالبيت ولم يكن على الحجر علامةٌ، وإنَّما علَّمها عمر ☺ إرادة(37) استكمال البيت.
          ذكر ذلك عبيد(38) الله بن أبي يزيد وعمرو بن دينار في باب بنيان الكعبة في آخر مناقب الصَّحابة في(39) هذا الدِّيوان، قالا: ((لمْ يَكُنْ حَوْلَ البَيْتِ حَائِطٌ، إِنَّما كَانُوا يُصَلُّونَ حَوْلَ البَيْتِ، حَتَّى كَانَ عُمَرُ فَبَنَى حَوْلَهُ حَائِطًا جَدْرُهُ قَصِيرٌ فَبَنَاهُ ابْنُ الزُّبَيْرِ)) [خ¦3830] وكذلك كان الطَّواف قبل تحجير عمر حول البيت الَّذي قصَّرته قريش عن القواعد كما قال(40) تعالى: {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ}[الحج:26]، والطَّواف فرضه البيت المبنيِّ ولو كان ذراعًا منه، وقد حجَّ النَّاس من زمن النَّبيِّ ◙ إلى زمن عمر فلم يُؤمر أحد بالرُّجوع من بلده إلى استكمال البيت(41).
          وقد قال مالك: من حلف لا(42) يدخل دار فلان، فهدمت فدخلها أنَّه لا يحنث، فهذا يدلُّ أنَّ الدَّار والبيت إنَّما يخصُّ(43) بالبنيان لا بالبقعة.
          قال المُهَلَّب: ومعنى قول عبد(44) الله بن أبي يزيد وعمرو: (وَلَم يَكُن حَولَ البَيتِ حَائِطٌ) أي حائط يحجِّر(45) الحجر من سائر المسجد حتَّى حجَّره عمر بالبنيان، ولم يبنه على الجدار(46) الَّذي كان علامة أساس إبراهيم ◙، بل زاد ووسَّع قطعًا للشَّكِّ أنَّ الجَدْر على آخر قواعد إبراهيم، فلمَّا لم يكن عند عمر أنَّ ذلك الجدر هو آخر قواعد البيت الَّتي رفعها إبراهيم وإسماعيل ♂(47) على يقين، ونُقل كافَّة، مع معرفته أنَّ قريشًا كانت قد هدمت البيت وبنته على غير القواعد، خشي أن يكون الجدر من(48) بنيان قريش(49) القديم، فزاد في الفسحة استبراء للشَّكِّ، ووسَّع الحجر حتَّى صار الجدر في داخل التَّحجير، وقد بان هذا في حديث جرير وهو قوله: (فَحَزرتُ مِنَ الحِجرِ سِتةَ(50) أَذرُعٍ أو نَحوَها).
          والحائط الَّذي بناه عمر حول الحِجر ليس بحائطٍ مرتفعٍ، وهو(51) من ناحية الحجر نحو ذراعين، ومن الجرف(52) خارجه نحو(53) أربعة أذرع(54) إلى صدر الواقف من خارجه، ولم يكن الجدر الَّذي ظهر من أساس إبراهيم ◙ مرتفعًا، إنَّما كان علامة كالنَّجم(55) والهدف لا بنيانًا.
          قال ابن القصَّار: والحجَّة لقول مالك إخبار الرَّسول(56) ◙ أنَّ البيت قُصِّر به عن قواعد إبراهيم ولم يتمَّ(57) عليها، فمن طاف في الحجر حصل طائفًا ببعضه لأنَّ البيت ما خطَّه آدم وبناه إبراهيم ♂، وقد قال عمر وابنه عبد الله: لولا أنَّ الحجر من البيت ما طيف به.
          قال(58) ابن عبَّاس: الحِجر من البيت، قال(59) تعالى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ}، ورأيت رسول الله صلعم طاف من وراء الحجر، فدلَّ أنَّه إجماع، ومن لم يستوف الطَّواف بالبيت وجب ألَّا يجزئه، كما لو فتح بابًا في البيت فطاف وخرج منه، والباء عند سيبويه في قوله تعالى: {بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} للامتزاج والاختلاط لا(60) للتَّبعيض، وسيأتي ذكر استلام الأركان في موضعه إن شاء الله تعالى. [خ¦1606] [خ¦1608]
          والجَدْر: واحد الجدور، وهي الحواجز الَّتي بين السَّواقي الَّتي تمسك الماء، وذكر عبد الرَّزَّاق عن ابن جُريج قال: سمعت الوليد بن عطاء يحدِّث عن الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة، عن عائشة، أنَّ النَّبيَّ صلعم قال لها: ((وَهَل تَدرِينَ لِمَ كانَ قَومُكِ رَفَعُوا بَابَها؟ قَالَت: لَا، قَالَ: تعزُّزًا لئلَّا يدخلَها إلَّا مَنْ أَرادُوا، فكانَ الرَّجلُ إذا كَرِهوا أنْ يَدخلَها يَدَعوه يَرتَقِي حتَّى إذا كادَ أن يدخلَها(61) دفَعُوه فَسَقَطَ)).


[1] زاد في (م): ((واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى)).
[2] في (م): ((وعباس)).
[3] في (م): ((على)).
[4] قوله: ((عائشة)) ليس في (م).
[5] قوله: ((أن)) ليس في (م).
[6] في (م): ((قال ابن عمر))، وفي (ص): ((قال عبد الله)).
[7] في (م) والنسخة المصرية: ((وقالت)).
[8] في (م): ((الجدار أمن)).
[9] في (م): ((لا)).
[10] قوله: ((قد)) ليس في (م).
[11] قوله: ((قلت)) ليس في (م).
[12] في (م): ((يفعل)).
[13] في (م): ((عهد)).
[14] في النسخة المصرية: ((بجاهلية)).
[15] في (م): ((في البيت)).
[16] زاد في (م): ((لي النبي)).
[17] زاد في (م): ((يا عائشة لولا أن قومك حديث عهد بجاهلية)).
[18] قوله: ((له)) ليس في (م).
[19] في (م): ((وبلغت)).
[20] قوله: ((قال جرير)) ليس في (م).
[21] صورتها في (ز) والنسخة المصرية: ((فخرجت))، والمثبت من (م).
[22] في (م): ((للكعبة)).
[23] في (م): ((تلي)).
[24] في (ز) والنسخ المصرية: ((أبو)) والمثبت من (م).
[25] في (م): ((النبي)).
[26] في النسخة المصرية: ((في)).
[27] في (م): ((وأنه)).
[28] زاد في (م): ((مالك)).
[29] قوله: ((لا)) ليس في (م).
[30] زاد في (م): ((في)).
[31] في (ز): ((يقضي ما)) والمثبت من (م).
[32] في (م): ((الكوفة)).
[33] في (م): ((فأشار)).
[34] زاد في (م): ((والبقعة)).
[35] في (م): ((والبقعة)).
[36] في (م): ((ولا)).
[37] في (م): ((أراد)).
[38] في (م): ((عبد)).
[39] في (م): ((من)).
[40] زاد في (م): ((الله)).
[41] قوله: ((البيت)) زيادة من (م).
[42] في (م): ((ألا)).
[43] في (م): ((يختص)).
[44] في المطبوع: ((عبيد)).
[45] في (ز): ((الحجر)) والمثبت من (م).
[46] في (م): ((الجدر)).
[47] في (م): ((صلى الله عليهما)).
[48] زاد في (م): ((بعض)).
[49] زاد في (م): ((مالك)).
[50] في (م): ((ست)).
[51] في (م): ((هو)).
[52] قوله: ((الجرف)) ليس واضحًا في (ز) ولعله ((الجوف)).
[53] زاد في (م): ((الجدر)).
[54] في (م): ((أربع أذرع ما)).
[55] في (م): ((للنجم)).
[56] في (م): ((النبي)).
[57] في (م): ((يتمم)).
[58] في (م): ((وقال)).
[59] زاد في (م): ((الله)).
[60] قوله: ((لا)) زيادة من (م).
[61] في (م): ((يدخل)).