شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب: ما يأكل من البدن وما يتصدق

          ░124▒ باب: مَا يَأْكُلُ مِنَ الْبُدْنِ وَمَا يَتَصَدَّقُ
          وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: لا يُؤْكَلُ مِنْ جَزَاءِ الصَّيْدِ وَالنَّذْرِ، وَيُؤْكَلُ مِمَّا سِوَى ذَلِكَ. وَقَالَ عَطَاءٌ: يَأْكُلُ وَيُطْعِمُ مِنَ الْمُتْعَةِ.
          فيه: جَابِرٌ: (كُنَّا لا نَأْكُلُ مِنْ لُحُومِ بُدْنِنَا فَوْقَ ثَلاثِ، فَرَخَّصَ لَنَا النَّبيُّ صلعم فَقَالَ: كُلُوا وَتَزَوَّدُوا، فَأَكَلْنَا وَتَزَوَّدْنَا. قُلْتُ لِعَطَاءٍ: أَقَالَ حَتَّى بَلغنا الْمَدِينَةَ؟ قَالَ: لا). [خ¦1719]
          وفيه: عَائِشَةُ قَالَتْ: (فَدُخِلَ عَلَيْنَا يَوْمَ النَّحْرِ بِلَحْمِ بَقَرٍ، فَقُلْتُ: مَا هَذَا؟ قَالَ: ذَبَحَ النَّبيُّ صلعم عَنْ أَزْوَاجِهِ). [خ¦1720]
          قال ابن المنذر: اختلف العلماء فيما يؤكل من الهدي، وما لا يؤكل، فكان ابن عمر يقول: لا يؤكل من جزاء الصَّيد ولا من النَّذر، ويؤكل ممَّا سوى ذلك، وروي مثله عن طاووس والحسن، وبه قال أحمد وإسحاق، وروِّينا عن الحسن قولًا ثانيًا: أنَّه لا بأس أن يأكل من جزاء الصَّيد ونذر المساكين، وهو قول الحكم في جزاء الصَّيد.
          وقال مالك: يؤكل من الهدي كلِّه إلَّا جزاء الصَّيد وفدية الأذى ونذر المساكين، وهو قول طاوس وسعيد بن جبير، وذكر ابن الموَّاز عن مالك أنَّه يأكل من الهدي النَّذر، إلَّا أن يكون نذره للمساكين، وكذلك ما أخرجه بمعنى الصَّدقة لا يأكل منه، وهدي التَّطوع إذا قصر عن بلوغ محلِّه وعطب فلا يؤكل منه، وكان الأوزاعيُّ يكره أن يؤكل من جزاء الصَّيد وفدية الكفَّارة، ويؤكل النَّذر وهدي التَّمتُّع والتَّطوُّع.
          وقال أبو حنيفة: يؤكل هدي القران والمتعة والتَّطوُّع، ولا يأكل سوى ذلك، وقال الشَّافعيُّ: لا يأكل إلَّا هدي التَّطوُّع خاصَّة، ولا يأكل من المتعة والقران، لأنَّه عنده واجب، وهو قول أبي ثور، واحتجَّ ابن القصَّار لقول مالك بقول الله تعالى: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ في أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ على مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا}[الحج:28]ولم يخصَّ واجبًا من تطوِّع، فهو عامٌّ في جواز الأكل إلَّا بدلالة، وأيضًا فإنَّ الإجماع حاصل / على جواز الأكل من دم المتعة ولا نعلم أحدًا منعه قبل الشَّافعيِّ، وقول عائشة: (فَدُخِلَ عَلَيْنَا يَوْمَ النَّحْرِ بِلَحْمِ بَقَرٍ) يردُّ قوله؛ لأنَّه لا خلاف أنَّ لحم البقر التي نحر النَّبيُّ صلعم عن أزواجه كانت هدي المتعة التي متَّعن، وقد أمر الرَّسول صلعم أن يحمل إليهنَّ منه ليأكلنه.
          قال المُهَلَّب: وإنَّما لم يجز الأكل من جزاء الصَّيد لأنَّه غرم جناية، فإذا أكل منه لم يغَرم المثل الذي أوجب الله عليه، وفدية الأذى من هذا الباب، وأمَّا نذر المساكين فإذا نذره فقد أوجبه لهم، فإذا أكل منه فلم ينفذ إليهم حقوقهم.
          واحتجَّ الطَّحاويُّ لأبي حنيفة فقال: ظاهر قوله: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا} إباحة الأكل من جميع الهدايا إذ لم يُذكر في ذلك خاصٌّ منها، واحتمل أنَّ باطن الآية كظاهرها، واحتمل أن تكون على خلاف ظاهرها، فنظرنا في ذلك، فوجدنا أهل العلم لا يختلفون في هدي التَّطوُّع إذا بلغ محلَّه أنَّه مباح لمهديه الأكل منه وأنَّه ممَّا دخل في هذه الآية، وشهد بذلك السُّنَن المأثورة، لأنَّ النَّبيَّ صلعم قد أكل من هديه في حجَّته، وكانت تطوُّعًا، ووجدناهم لا يختلفون في جزاء الصَّيد والنَّذر للمساكين أن مُهدِي ذلك لا يأكل منه وأنَّه غير ذا حل في هذه الآية. واختلفوا في هدي القران والمتعة وهدي الجماع، فنظرنا في ذلك فكان هدي المتعة والقران بهدي التَّطوُّع أشبه منهما بما سوى ذلك من الهدايا إذا كان هاذان الهديان إنَّما يجبان بأفعال غير منهيٍّ عنها كالهدي التَّطوُّع الذي يجب بفعل غير منهيٍّ عنه ولم يكن ذلك كهدي النَّذر؛ لأنَّ هدي النَّذر إنَّما يكون شكرًا لشيءٍ يراد به أن يكون جزاءً له. كقول الرَّجل: إن بلَّغني الله تعالى الحجَّ فله عليَّ أن أهدي بدنة، فأشبهت العوض عن الأشياء التي يتعرَّض بها(1) وكان هدي الجماع بهدي جزاء الصَّيد أشبه منه بهدي التَّطوُّع؛ إذ كانت إصابة الصَّيد منهيًّا(2) عنها في الإحرام، وإصابة الجماع كذلك فلم يجز أن يؤكل منها كما لا يجوز أن يؤكل من نظيرها من الهدايا، وأمَّا هدي التَّطوُّع إذا عطب قبل محلِّه، فقد اختلف أهل العلم فيه، فقالت طائفة: صاحبه ممنوع من الأكل منه. رُوي ذلك عن ابن عبَّاس وهو قول مالك وأبي حنيفة والشَّافعيِّ، ورخصَّت طائفة في الأكل منه، روي ذلك عن عائشة وعبد الله بن عُمَر.
          قال المؤلِّف: وأمَّا حديث جابر فهو مجمل كالآية. وفيه: جواز الأكل من الهدي دون تخصيص نوع منه بالمنع. وقد ذكرت أقوال العلماء في الآية، واقتضى ذلك معنى الحديث. وقول جابر: (كُنَّا لَا نأكلُ مِنْ لحومِ بُدْنِنَا فَوقَ ثَلاثٍ). فقال النَّخَعِيُّ: وكان المشركون لا يأكلون من ذبائحهم، فأبيح للمسلمين الأكل منها، وإنَّما منعوا من ذلك في أوَّل الإسلام من أجل الدَّافَّة فلمَّا زالت العلَّة الموجبة لذلك أمرهم أن يأكلوا ويدَّخروا.
          واختلف في مقدار ما يأكل منها ويتصدَّق، فذكر علقمة أنَّ ابن مسعود أمره أن يتصدَّق بثلثه، ويأكل ثلثه، ويهدي ثلثه. وروي عن عطاء، وهو قول الشَّافعيِّ وأحمد وإسحاق، وقال الثَّوريُّ: يتصدَّق بأكثره. وقال أبو حنيفة: ما أحبُّ أن يتصدَّق بأقلَّ من الثُّلث.


[1] في المطبوع: ((تتعوض بهدي)).
[2] في (ص) والمطبوع: ((منهي)).