شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب مهل أهل مكة للحج والعمرة

          ░7▒ باب: مُهَلِّ أَهْلِ مَكَّةَ لِلْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ.
          فيه: ابْنُ عَبَّاسٍ: (إِنَّ النَّبيَّ صلعم وَقَّتَ لأهْلِ الْمَدِينَةِ ذَا الْحُلَيْفَةِ، وَلأهْلِ الشَّأْمِ الْجُحْفَةَ، وَلأهْلِ نَجْدٍ قَرْنَ الْمَنَازِلِ، وَلأهْلِ الْيَمَنِ يَلَمْلَمَ، هُنَّ لَهُنَّ وَلِمَنْ أَتَى عَلَيْهِنَّ مِنْ غَيْرِهِنَّ مِمَّنْ أَرَادَ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ، وَمَنْ كَانَ دُونَ ذَلِكَ، فَمِنْ حَيْثُ أَنْشَأَ حَتَّى أَهْلُ مَكَّةَ مِنْ مَكَّةَ). [خ¦1524]
          وترجم له باب مهلِّ أهل الشَّام، وباب مهلِّ من كان دون المواقيت، وباب مهلِّ أهل اليمن.
          قال ابن المنذر: والعلماء(1) متَّفقون على أنَّ مهلَّ أهل مكة للحجِّ من مكَّة، كما وقَّت لهم النَّبيُّ ◙ فاللَّازم على ظاهر هذا الخبر ألَّا يخرج(2) أهل مكَّة عن بيوت مكَّة إلَّا محرمين، وسنَّتهم ألَّا طواف ولا سعي عليهم، وإنَّما ذلك على من يقدم مكَّة من غير أهلها.
          قال ابن المنذر: يجمع هذا الحديث أبوابًا من السُّنن، منها: أنَّ هذه المواقيت لكلِّ من أتى عليها من غير أهلها، فإذا جاء المدنيُّ من الشَّام على طريق السَّاحل أحرم من الجحفة، وإذا أتى اليماني على ذي الحليفة أحرم منها، وإذا أتى النَّجديُّ من تهامة أحرم من يَلَملَم، وكلُّ من مرَّ بميقات بلدة أحرم منه، ومنها: أنَّ ميقات كلِّ مَنْ منزله دون الميقات ممَّا يلي مكَّة مِنْ منزله ذلك.
          ومنها: أنَّ أهل مكَّة ميقاتهم مكَّة، ومنها: أنَّ هذه المواقيت إنَّما يلزم الإحرام منها من يريد حجًّا أو عَمْرةً، ولا يلزم الإحرام منها من لا يريد الحجَّ والعمرة، ولو مرَّ مدني بذي الحليفة ولا يريد حجًّا ولا عُمْرةً فسار حتَّى قرب من الحرم أراد(3) الحجَّ والعمرة فإنَّه يحرم من حيث حضرته نيَّة الحجِّ أو العمرة، ولا يجب عليه ما وجب(4) على من مرَّ بميقاته وهو يريد الحجَّ والعمرة ولم(5) يحرم منه(6)، وأحرم من وراء ذلك ممَّا يلي مكَّة.
          وعلى هذا عامَّة العلماء إلَّا أحمد وإسحاق فإنَّهما قالا: يرجع إلى ذي الحليفة ويحرم، والقول الأوَّل أبين(7) لدلالة حديث ابن عبَّاسٍ على ذلك، ولأنَّ ابن(8) عمر أحرم من الفُرْعِ، وهو بعد الميقات، وهو راوي(9) حديث المواقيت، ومحال أن يتعدَّى ذلك مع علمه به ويوجب على نفسه دمًا، هذا ما(10) لا يظنُّه عالم.
          وقال الشَّافعيُّ: محمل(11) فعل ابن عمر أنَّه مرَّ بميقاته لا يريد إحرامًا، ثمَّ بدا له أو جاء إلى الفُرع من مكَّة أو غيرها، ثمَّ بدا له في الإحرام.
          واختلفوا إذا مرَّ بذي الحليفة وهو يريد الحجَّ والعمرة(12) ولم يحرم منها، وأحرم من الجحفة، فقال مالك: عليه دم، وهو قول اللَّيث والثَّوريِّ والشَّافعيِّ، واختلف في ذلك أصحاب مالك، فمنهم من أوجب الدَّم، ومنهم من لم يوجبه، ورخَّص في ذلك الكوفيُّون والأوزاعيُّ وأحمد وإسحاق وأبو ثورٍ، وقالوا: لا شيء عليه.
          ورُوي عن عائشة أنَّها كانت إذا أرادت العمرة أحرمت من الجحفة، وإن(13) أرادت الحجَّ أحرمت من ذي الحليفة.
          قال ابن الموَّاز: ويدلُّ أمر النَّبيِّ ◙ عائشة أن تخرج من الحرم وتحرم بعمرة، على أنَّ مكَّة ليست بميقاتٍ يُحرم منها للعمرة، فبان بهذا أنَّ معنى قوله ◙ في حديث ابن عبَّاس: (حَتَّى أَهلُ مَكَّةَ يُهِلُّونَ مِنْ مَكَّةَ) أنَّه أراد الإحرام بالحجِّ فقط، دون الإحرام بالعمرة، إذ لو كان على ظاهر الحديث لكان ميقات أهل مكَّة للحجِّ والعمرة مكَّة، كما كان لأهل المواقيت ولمن دونها ممَّا يلي الحرم الإحرام من مواقيتهم، فلمَّا أمر عائشة أن تحرم من التَّنعيم دلَّ أنَّ إهلال(14) أهل مكَّة من مكَّة إنَّما هو بالحجِّ دون العمرة.
          قال غيره: وأئمَّة الفتيا(15) متَّفقون على أنَّ المكِّيَّ إذا أراد العمرة أنَّه لابدَّ له من الخروج إلى الحِلِّ يهلُّ منه لأنَّه لابدَّ له في عمرته من الجمع بين الحلِّ والحرم، وليس ذلك على الحاجِّ المكِّيِّ لأنَّه خارج في حجِّه إلى عرفات، وهي الحلُّ، وشذَّ ابن الماجِشُون في مسألة من هذا الباب فقال: لا يقرن المكِّيُّ من مكَّة قياسًا على المعتمر، وخالفه مالك وجميع أصحابه فقالوا: إنَّه(16) يقرن من مكَّة لأنَّه خارج في حجِّه إلى الحلِّ عرفات، وقد ذكر ابن الموَّاز عن مالك أنَّه لا يقرن المكِّيُّ إلَّا(17) من الحلِّ، كقول ابن الماجِشُون.
          فإن اعتمر من مكَّة ولم يخرج إلى الحلِّ للإحرام حتَّى طاف وسعى، ففيها قولان: أحدهما: أنَّ عليه دمًا لترك(18) الميقات، وعمرته تامَّة، وهذا(19) قول الكوفيِّين وأبي ثورٍ، وأحد قولي الشَّافعيِّ، والقول الثَّاني: أنَّ ذلك لا يجزئه حتَّى يخرج من الحرم ثمَّ يطوف ويسعى، ويقصر أو يحلق، ولا شيء عليه، ولو كان حلق أهراق دمًا، هذا قول الشَّافعيِّ الآخر، وهو قول مالك وأصحابه.
          قال مالك: وما رأيت أحدًا أحرم بعمرةٍ من الحرم، ولا يحرم أحدٌ بعمرةٍ من مكَّة، ولا تصحُّ العمرة عند جميع العلماء إلَّا من الحلِّ المكِّيِّ أو غيره.
          قال ابن المنذر:(20) / وهذا أشبه، وحكى الثَّوريُّ عن عطاء أنَّه من أهلَّ بعمرةٍ من مكَّة أنَّه لا شيء عليه، قال سفيان: ونحن نقول(21): إذا أهلَّ بها لزمته ويخرج إلى الميقات، وقال ابن المنذر: المحرم بعمرةٍ من مكَّة تاركٌ لميقاته، فعليه أن يخرج من الحرم ليكون قد رجع إلى ميقاته، كما نأمر من جاز ميقاته أن يرجع ما لم يطف بالبيت، فإن لم يخرج إلى الحلِّ حتَّى يفرغ من نسكه فعليه دمٌ، كما يكون ذلك على من ترك ميقاته حتَّى فرغ من نسكه.
          وأمَّا إذا كان منزل الرَّجل بين مكَّة والمواقيت، فجمهور الفقهاء قائلون بحديث ابن عبَّاسٍ أنَّه يحرم من موضعه بالحجِّ، وهو ميقاته، وإن(22) لم يحرم منه فهو كمن ترك ميقاته، فعليه أن يرجع، فإن لم يفعل فعليه دمٌ، قال(23) مجاهد: ميقاته من مكَّة. وهذا خلاف قوله ◙: (وَمَنْ كَانَ دُونَ ذَلِكَ فَمِنْ حَيثُ أَنشَأَ)، قال ابن المنذر: وفي(24) حديث ابن عبَّاس إثباته ◙ يَلَمْلَم ميقاتًا لأهل اليمن، لأنَّ ابن عمر قال: (وَيَزعُمُونَ أنَّ النَّبيَّ ◙ قَالَ: وَيُهِلُّ أَهلُ اليَمَنِ مِنْ يَلَملَمَ) فأسنده ابن عبَّاسٍ.


[1] في (م): ((العلماء)).
[2] في (ز): ((يخرجوا)) والمثبت من (م).
[3] في (م): ((وأراد)).
[4] في (م): ((يجب)).
[5] في (م): ((فلم)).
[6] صورتها في (ز): ((مسوا)) والمثبت من (م).
[7] في (م): ((أعلى)).
[8] في (م): ((ذلك ولابن)).
[9] في (م): ((روى)).
[10] قوله: ((ما)) ليس في (م).
[11] في (م): ((يحمل)).
[12] في (م): ((أو العمرة)).
[13] في (م): ((وإذا)).
[14] في (م): ((إحرام)).
[15] في (م): ((الفتوى)).
[16] قوله: ((إنه)) ليس في (م).
[17] زاد في (ز): ((بمكة؛ لأنه خارج في حجه)) والمثبت من (م).
[18] في (م): ((لتركه)).
[19] في (م): ((هذا)).
[20] قوله: ((حَجٌّ مَبرُورٌ)). يفسِّر قوله تعالى: {وَقَرْنَ في بُيُوتِكُنَّ......} ولا تصحُّ العمرة عند جميع العلماء إلَّا من الحلِّ المكِّيِّ أو غيره.((قال ابن المنذر)) الورقة ليست في المخطوط (ص).
[21] زاد في (م): ((أنه)).
[22] في (م): ((فإن)).
[23] في (م): ((وقال)).
[24] في (م): ((في)).