شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب من طاف بالبيت إذا قدم مكة قبل أن يرجع إلى بيته

          ░63▒ باب: مَنْ طَافَ بِالْبَيْتِ إِذَا قَدِمَ(1) قَبْلَ أَنْ يَرْجِعَ إلى بَيْتِهِ، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ خَرَجَ إلى الصَّفَا.
          فيه: عَائِشَةُ: (أَنَّ النَّبيَّ صلعم أَوَّلَ شَيْءٍ بَدَأَ بِهِ حِينَ قَدِمَ أَنَّهُ تَوَضَّأَ، ثُمَّ طَافَ، ثُمَّ لَمْ تَكُنْ عُمْرَةً، ثُمَّ حَجَّ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ مِثْلَهُ، ثُمَّ حَجَجْتُ مَعَ أبي(2) الزُّبَيْرِ بنِ العَوَّامِ، فَأَوَّلُ شَيْءٍ بَدَأَ بِهِ الطَّوَافُ، ثُمَّ رَأَيْتُ الْمُهَاجِرِينَ وَالأنْصَارَ يَفْعَلُونَهُ، وَقَدْ أَخْبَرَتْنِي أُمِّي أَنَّهَا أَهَلَّتْ هِيَ وَأُخْتُهَا وَالزُّبَيْرُ وَفُلانٌ وَفُلانٌ بِعُمْرَةٍ، فَلَمَّا مَسَحُوا الرُّكْنَ حَلُّوا). [خ¦1614] [خ¦1615]
          وفيه: ابْنُ عُمَرَ: (كَانَ(3) صلعم إِذَا طَافَ في الْحَجِّ أَوِ الْعُمْرَةِ أَوَّلَ مَا يَقْدَمُ يسعَى(4) ثَلاثَةَ أَطْوَافٍ، وَمَشَى أَرْبَعَةً، ثُمَّ يسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ، ثُمَّ يَطُوفُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ. وَكَانَ يَسْعَى في بَطْن الْمَسِيلِ). [خ¦1616]
          غرضه في هذا الباب أن يبيِّن أنَّ سنَّة من قدم مكَّة حاجًا أو معتمرًا أن يطوف بالبيت ويسعى بين الصَّفا والمروة(5)، فإن كان معتمرًا حلق وحلَّ، وإن كان حاجًّا ثبت على إحرامه حتَّى يخرج إلى منى يوم التَّروية لعمل حجِّه، ولذلك(6) قال مالك: إذا دخلتَ(7) المسجد فلا تبدأ بالرُّكوع، ولكن تستلم الرُّكن وتطوف، وكذلك فعل النَّبيُّ ◙.
          وقوله: (ثُمَّ لَمْ تَكُنْ عُمْرَةً) يعني أنَّ النَّبيَّ صلعم طاف بالبيت ثمَّ لم يحلَّ من حجِّه بعمرة من أجل الهدي، وكذلك فعل أبو بكر وعمر أفردا الحجَّ.
          وقال ابن المنذر: سَنَّ رسول الله صلعم للقادمين المحرمين بالحجِّ تعجيل الطَّواف والسَّعي بين الصَّفا والمروة عند دخولهم، وفعل هو ذلك على ما روته عائشة(8)، وأمر من حَلَّ من أصحابه أن يحرموا إذا انطلقوا إلى منى، فإذا أحرم من هو منطلق إلى منى فغير جائز أن يكون طائفًا وهو منطلق إلى منى.
          فدلَّ هذا الحديث على أنَّ من أحرم من مكَّة من أهلها أو غيرهم(9) أنَّ السُّنَّة أن يؤخِّروا طوافهم وسعيهم إلى يوم النَّحر، خلاف فعل القادمين لتفريق السُّنَّة بين الفريقين، وأيضًا فإنَّ أهل العلم سمَّوا(10) هذا الطَّواف: طواف الورود، وليس من أنشأ الحجَّ من مكَّة واردًا بحجِّه(11) عليها، فسقط بذلك عنهم تعجيله.
          وكان ابن عبَّاس يقول: يا أهل مكَّة، إنَّما طوافكم بالبيت وبين الصَّفا والمروة يوم النَّحر، وأمَّا أهل الأمصار فإذا قدموا، وكان يقول: لا أرى لأهل مكَّة أن يحرموا بالحجِّ حتَّى يخرجوا، ولا أن يطوفوا بين الصَّفا والمروة حتَّى يرجعوا، هذا قول ابن عمر وجابر، وقالوا: من أنشأ الحجَّ من مكَّة فحكمه حكم أهل مكَّة.
          قال ابن المنذر: وهذا(12) قول مالك وأهل المدينة وطاوس، وبه قال أحمد وإسحاق، واختلف قول مالك فيمن طاف وسعى قبل خروجه، فكان يقول: يعيد إذا رجع ولا يجزئه طوافه الأوَّل / ولا سعيه، وقال أيضًا: إن رجع إلى بلاده قبل أن يعيد فعليه(13) دم.
          ورخَّصت طائفةٌ في ذلك، ورأت المكِّيَّ ومن دخل مكَّة إن طافا وسعيا قبل خروجهما أنَّ ذلك جائز، هذا قول عطاء والشَّافعيِّ، غير أنَّ عطاء كان يرى تأخيره أفضل، وقد فعل ذلك ابنُ الزُّبير(14) لمَّا أَهَلَّ هلالُ ذي الحجِّة، ثمَّ طاف وسعى وخرج، وأجازه القاسم بن محمَّد، وقال عطاء:(15) من جاور بمنزلة أهل مكَّة، إِنْ أَحْرَمَ أَوَّلَ العشر طاف حين يُحرم، وإن أحرم يوم التَّروية أخَّر الطَّواف إلى يوم النَّحر.(16)
          واختلفوا فيمن قدم مكَّة فلم يطف حتَّى أتى منى، فقالت طائفة: عليه دمٌ، هذا قول أبي ثورٍ، واحتجَّ بقول ابن عبَّاس: مَنْ ترك من نسكه شيئًا فليهرق لذلك دمًا. وحكى أبو ثورٍ عن مالك: يجزئه طواف الزِّيارة لطواف الدُّخول والزِّيارة والصَّدر، وحكى غيره عن مالك أنَّه إن كان مراهقًا فلا شيء عليه، فإن دخل غير مراهق فلم يطف حتَّى مضى إلى عرفات فإنَّه يهريق دمًا لأنَّه فرَّط في الطَّواف حين قدم حتَّى أتى إلى عرفات، وقال أبو حنيفة والشَّافعيُّ وأشهب: لا شيء عليه إن ترك طواف القدوم.
          قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أنَّ من ترك طواف القدوم وطاف(17) للزِّيارة ثمَّ رجع إلى بلده أن حجَّه تامٌّ، ولم يوجبوا عليه الرُّجوع كما أوجبوه عليه(18) في طواف الإفاضة(19)، فدلَّ(20) إجماعهم على ذلك أنَّ طواف القدوم ليس بفرضٍ، وكان ابن عمر وسعيد بن جبير ومجاهد والقاسم بن محمَّد لا يرون بأسًا إذا طاف الرَّجل أوَّل النَّهار أنَّه(21) يؤخِّر السَّعي حتَّى يبرد.
          وكذلك قال أحمد وإسحاق: إذا كانت به علَّة(22)، وقال الثَّوريُّ: لا بأس إذا طاف أن يدخل الكعبة، وإذا(23) خرج سعى.
          وقوله: (فَلمَّا مَسَحُوا الرُّكنَ حَلُّوا) يريد بعد أن سعوا بين الصَّفا والمروة لأنَّ العمرة إنَّما هي الطَّواف بالبيت والسَّعي بين الصَّفا والمروة، ولا يحلُّ من قدم مكَّة بأقل من هذا، فخشي البخاريُّ أن يتوهَّم متوهِّم أنَّ قوله: (فَلمَّا مَسَحُوا الرُّكنَ حَلُّوا) أنَّ العمرة إنَّما هي الطَّواف بالبيت فقط، وأنَّ(24) المعتمر يحلُّ من عمرته بالطَّواف بالبيت، ولا يحتاج إلى سعي بين الصَّفا والمروة، وهو مذهب ابن عبَّاس، ورُوي(25) عنه أنَّه قال: إنَّ(26) العمرة الطَّواف. وقال به إسحاق ابن راهويه، ويمكن أن يحتجَّ من قال بهذا(27) بقراءة ابن مسعود: ▬وأتمُّوا الحجَّ والعمرةَ إلى البيتِ↨. أي أنَّ العمرة لا يجاوز بها البيت.
          فأراد البخاريُّ بيان فساد هذا التَّأويل بما أردف في آخر الباب من حديث ابن عمر: (أنَّ النَّبيَّ صلعم كان إذا قَدِمَ مكَّةَ للحجِّ أو لِلعُمرَةِ(28) طَافَ بالبيتِ، ثمَّ سعَى(29) بينَ الصَّفا والمروةَ). وعلى هذا جماعة فقهاء الأمصار(30).


[1] زاد في (م): ((مكة)).
[2] في النسخ و(ص) ((ابن)) والمثبت الموافق للصحيحين.
[3] زاد في (م): ((النبي)).
[4] في (م): ((سعى)).
[5] قوله: ((وَكَانَ يَسْعَى في بَطْن الْمَسِيلِ. غرضه في..... الصفا والمروة)) زيادة من (م)، وليس في (ص).
[6] في (م): ((وكذلك)).
[7] في (م): ((دخل)).
[8] زاد في (م): ((عنه)).
[9] في (م): ((وغيرهم)).
[10] في (م): ((قد سموا)).
[11] في (م): ((من مكة وأردف الحجة)).
[12] في (م): ((وهو)).
[13] في (م): ((فلا)).
[14] زاد في (م): ((أهلَّ)).
[15] زاد في (م): ((منزلة)).
[16] زاد في (م): ((قال ابن المنذر: أحب إلي أن يطوف من أحرم من مكة يوم النحر)).
[17] في (م): ((من ترك هذا الطواف وطاف)).
[18] قوله ((عليه)) ليس في (م).
[19] في (م): ((الزيارة)).
[20] في (م): ((يدل)).
[21] في (م): ((أن)).
[22] في (م): ((كانت غلبة)).
[23] في (م): ((فإذا)).
[24] في (ز) و(ص): ((فإن)) والمثبت من (م).
[25] في (م): ((روي)).
[26] قوله ((إن)) ليس في (م).
[27] في (م): ((هذا)).
[28] في (م): ((العمرة)).
[29] في (ص): ((وسعى)).
[30] في (م): ((جماعة الفقهاء بالأمصار)).