شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب كسوة الكعبة

          ░48▒ باب: كِسْوَةِ الْكَعْبَةِ.
          فيه: عُمَرُ: (أنَّهُ جَلَسَ على الْكُرْسِيِّ في الْكَعْبَةِ، فَقَالَ(1): لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ لا أَدَعَ فِيهَا صَفْرَاءَ وَلا بَيْضَاءَ إِلَّا قَسَمْتُهُ، قُلْتُ: إِنَّ صَاحِبَيْكَ لَمْ يَفْعَلا، قَالَ: هُمَا الْمَرْءَانِ أَقْتَدِي بِهِمَا). [خ¦1594]
          قال ابن جُريج: زعم بعض علمائنا أنَّ أوَّل من كسا الكعبة إسماعيل ◙. قال ابن جُريج: وبلغني أنَّ تُبَّعًا أوَّل من كساها، ولم تزل الملوك في كلِّ زمان يكسونها بالثِّياب الرَّفيعة، ويقومون بما تحتاج إليه من المؤنة تبرُّكًا بذلك، فرأى عمر أنَّ ما فيها من الذَّهب والفضَّة لا تحتاج إليه الكعبة لكثرته، فأراد أن يصرفه في منافع المسلمين نظرًا لهم(2)، فلمَّا أخبره شيبة بأنَّ النَّبيَّ صلعم وأبا بكر ☺ لم يتعرَّضا(3) لذلك(4) أمسك وصوَّب فعلهما، وإنَّما ترك ذلك _والله أعلم_ لأنَّ ما جعل في الكعبة وسبِّل لها يجري مجرى الأوقاف، ولا يجوز تغيير الأوقاف عن وجوهها ولا صرفها عن طرقها(5)، وفي ذلك أيضًا تعظيمٌ للإسلام وحرماته، وترهيب على العدوِّ، وقد روى ابن عيينة عن عَمْرو عن الحسن قال(6): قال عُمَر بن الخطَّاب: لو أخذنا ما في هذا البيت، يعني الكعبة، فقسمناه(7)، فقال له أبيُّ بن كعب: والله ما ذلك لك، قال: ولم؟ قال: لأنَّ الله(8) بيَّن موضع كلِّ مال، وأقرَّه رسول الله صلعم. قال: صدقت.
          فإن قال قائل: ما وجه ترجمة هذا الباب(9) بباب كسوة الكعبة ولا ذكر فيه لكسوة؟ قيل له: معنى التَّرجمة صحيح، ووجهها أنَّه معلومٌ أنَّ الملوك في كلِّ زمان كانوا يتفاخرون بكسوة الكعبة برفيع الثِّياب المنسوجة بالذَّهب وغيره، كما يتفاخرون بتسبيل الأموال إليها(10)، فأراك(11) البخاريُّ أنَّ عمر ☺ لمَّا رأى قسمة الذَّهب والفضَّة الموقوفين(12) بها على أهل الحاجة صوابًا، كان حكم الكسوة حكم المال، تجوز قسمتها، بل ما فضل من كسوتها أولى بالقسمة على أهل الحاجة من قسمة المال، إذ قد يمكن نفقة المال فيما تحتاج إليه الكعبة في إصلاح ما يهي(13) منها، وفي وقيدٍ(14) وأجرةٍ قيِّم، والكسوة لا تدعو إليها ضرورة ويكفي منها بعضها.
          وفي هذا حجَّة لمن قال: إنَّه يجوز صرف ما فضل(15) في سبيل من سبل الله في سبيل آخر من سبل الله إذا(16) كان ذلك صوابًا، وفي فعل النَّبيِّ ◙ وفعل أبي بكر ☺ حجَّة لمن رأى إبقاء الأموال على ما سبلت عليه، وترك تغييرها(17) عمَّا جعلت له، وفي قوله: (هُمُ(18) المرءَانِ أقتَدِي بهِما) من الفقه ترك خلاف كبار الأئمَّة وفضل الاقتداء بهما، وأنَّ ذلك فعل السَّلف.


[1] في (م): ((وقال)).
[2] زاد في (م): ((وحيطة عليهم)).
[3] في (م): ((يعرضا)).
[4] زاد في (م): ((وتركاه)).
[5] في (م): ((طريقها)).
[6] قوله: ((قال)) ليس في (م).
[7] في (ز): ((فقسماه)) والمثبت من (م).
[8] زاد في (م): ((قد)).
[9] في (م): ((الحديث)).
[10] في (م): ((لها)).
[11] في (م): ((فأراد)).
[12] في (ز): ((الموقفين)) والمثبت من (م).
[13] في (م): ((بني)).
[14] قوله: ((وقيد)) ليس في المطبوع ومكانها فارغ، وفي (م): ((وقيد)) مهملة.
[15] في (م): ((جعل)).
[16] في (م): ((إذ)).
[17] في (ز): ((تغييرهما)) والمثبت من (م).
[18] في (م): ((هما)).