شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب الحلق والتقصير عند الإحلال

          ░127▒ باب: الْحَلْقِ وَالتَّقْصِيرِ عِنْدَ الإحْلالِ
          فيه: ابْنُ عُمَرَ: (أَنَّ النَّبيَّ صلعم قَالَ: اللَّهُمَّ ارْحَمِ الْمُحَلِّقِينَ، قَالُوا: وَالْمُقَصِّرِينَ يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: اللَّهُمَّ ارْحَمِ الْمُحَلِّقِينَ، قَالُوا: وَالْمُقَصِّرِينَ، قَالَ: وَالْمُقَصِّرِينَ). [خ¦1727]
          وقال: (حَلَقَ النَّبيُّ صلعم وَطَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَقَصَّرَ بَعْضُهُمْ). [خ¦1729]
          وفيه: مُعَاوِيَةُ قَالَ: (قَصَّرْتُ عَنْ رَسُولِ اللهِ صلعم بِمِشْقَصٍ). [خ¦1730]
          هذا الموضع الذي قال فيه رسول الله صلعم هذا القول كان بالحديبية، ذكره ابن إسحاق عن الزُّهريِّ، عن عروة، عن مروان بن الحكم والمسور بن مَخرمة قالا: ((لمَّا فرغ رسول الله صلعم من الكتاب، أمر النَّاس أن ينحروا ويحلقوا، فوالله ما قام رجل؛ لما دخل في قلوب النَّاس من الشَّرِّ، فقالها رسول الله ثلاث مرات، فما قام أحد، فقام رسول الله صلعم فدخل على أمِّ سلمة، فقال لها: أما تري النَّاس آمرهم بالأمر لا يفعلونه، فقالت: يا رسول الله، لا تَلُمهم؛ فإنَّ النَّاس دخلهم أمر عظيم ممَّا رأوك حملت على نفسك في الصُّلح، فاخرج يا رسول الله لا تكلِّم أحدًا حتَّى تأتي هديك فتنحر وتحلَّ؛ فإنَّ النَّاس إذا رأوك فعلت ذلك فعلوه. فخرج رسول الله صلعم ففعل ذلك، فقام النَّاس فنحروا، فحلق بعض وقصَّر بعض، فقال رسول الله: اللَّهُمَّ اغفر للمحلِّقين، ثلاثًا، وقال في الثَّالثة: وللمقصِّرين)).
          وذكر ابن إسحاق عن ابن أبي نَجِيْح، عن مجاهد، عن ابن عبَّاس قال: ((حلق رجال يوم الحديبية وقصَّر آخرون، فقال رسول الله صلعم: اللَّهُمَّ ارحم المحلِّقين، ثلاثًا، قيل: يا رسول الله، ما بال المحلِّقين ظاهرت لهم في التَّرحُّم؟ قال: لأنَّهم لم يشكُّوا)).واختلف أهل العلم هل الحلاق نسك يجب على الحاجِّ والمعتمر أم لا؟ فقال / مالك: هو نسك يجب على الحاجِّ والمعتمر، وهو أفضل من التَّقصير، ويجب على من فاته الحجُّ أو أُحصر بِعَدوِّ أو بمرض. وهو قول جماعة من الفقهاء، إلَّا في الحصر؛ فإنَّهم اختلفوا هل هو من النُّسك؟ فقال أبو حنيفة: ليس على المحصر تقصير ولا حلاق. وهذا أمر النَّبيِّ صلعم أصحابه بالحديبية حين صُدَّ عن البيت بالحلاق وهم محصورون، فلا وجه لقوله. وقال الشَّافعيُّ مرَّةً: الحلاق من النُّسك. وقال مرَّةً: الحلاق من الإحلال؛ لأنَّه ممنوع منه للإحرام.
          وقال غيره: من جعل الحلاق نسكًا أوجب على من تركه الدَّم، ومن جعله من باب الإحلال لم يوجب على من تركه شيئًا، ودعاء الرَّسول صلعم للمحلِّقين ثلاثًا دليلٌ على أنَّ الحلاق نسك، فلا وجه لإسقاط أبي حنيفة له عن المحصر.
          قال ابن القصَّار: والدَّليل على أنَّه نسك يجب عليه عند التَّحلُّل قوله تعالى: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاء اللهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ}[الفتح:27]فخصَّ الحلق والتَّقصير من بين المباحات، ولم يقل: لابسين متطيِّبين، عُلِم أنَّ الحلاق نسك، وليس حكمه حكم اللِّباس وغيره، وأيضًا فإنه دَعَا للمحلِّقين ثلاثًا، ولم يَدْعُ لهم على شيء من فعل المباحات مثل اللِّباس والطِّيب، ودعاؤه ◙ معه الثَّواب، فثبت أنَّ الحلاق نسك؛ لأنَّ الثَّواب يقع عليه، ولو كان أباحه من حَظْرٍ لم يستحقَّ الدُّعاء والثَّواب عليه. واجمعوا أنَّ النِّساء لا يحلقن، وأنَّ سنَّتهنَّ التَّقصير.
          قال المُهَلَّب: ووجه دعاء النَّبيِّ صلعم للمحلِّقين ثلاثًا _والله أعلم_ أنَّ التَّحليق أبلغ في العبادة، وأدلُّ على صدق النِّيَّة في التَّذلُّل لله؛ لأنَّ المقصِّر لشعره مبق لنفسه من الزِّينة التي أراد الله أن يأتيه المستجيبون لدعوته بالحجِّ مبرَّئين منها، مظهرين للذِّلَّة والخشوع، مجانبين للطِّيب والتَّزيُّن كلِّه، شَعِثًا غَبِرًا، ومن ترك من شعره البعض فقد أبقى لنفسه من الزِّينة والْتَذَّ بها ما دلَّ على أنَّه لم يتزيَّن بالشَّعَث والغَبرة لله وحده، فأكَّد النَّبيُّ صلعم الحضَّ على الشَّعَث والغَبرة بالدَّعوة لمن آثرها على إبقاء الزِّينة لدنياه، ثمَّ جعل له من الدَّعوة نصيبًا، وهو الرُّبع، لئلَّا يخيِّب أحدًا من أمَّته من صالحٍ دعوتِهِ. وقال أبو عبيد: المِشْقَص: النَّصل الطَّويل، وليس بالعريض.
          قال أبو حنيفة الدَّيْنَوَريُّ: المشقص: كلُّ نصل فيه عَيرٌ وكلُّ ناتئ في وسطه حديدةٌ فهو عَيرٌ ومنه عَيرُ الكتف والورقة.