شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب الخطبة أيام منى

          ░132▒ باب: الْخُطْبَةِ أَيَّامَ مِنًى
          فيه: ابْنُ عَبَّاسٍ: (أَنَّ النَّبيَّ صلعم خَطَبَ النَّاسَ يَوْمَ النَّحْرِ، فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ أيُّ يَوْمٍ هَذَا؟ قَالُوا: يَوْمٌ حَرَامٌ، قَالَ: فَأَيُّ بَلَدٍ هَذَا؟ قَالُوا: بَلَدٌ حَرَامٌ، قَالَ: فَأَيُّ شَهْرٍ هَذَا؟ قَالُوا: شَهْرٌ حَرَامٌ، قَالَ: فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ، وَأَمْوَالَكُمْ، وَأَعْرَاضَكُمْ، عَلَيْكُمْ حَرَامٌ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، في بَلَدِكُمْ هَذَا، في شَهْرِكُمْ هَذَا، فَأَعَادَ هَذَا مِرَارًا، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ مرتين. [خ¦1739]
          قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّهَا لَوَصِيَّتُهُ إلى أُمَّتِهِ، فَلْيُبْلِغِ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ لا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا، يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ. وَقَالَ جَابِر بْنَ زَيْدٍ عن ابْنِ عَبَّاسٍ: سَمِعْتُ النَّبيَّ صلعم يَخْطُبُ بِعَرَفَاتٍ).
          وفيه: أَبُو بَكْرَةَ: (خَطَبَنَا النَّبيُّ صلعم يَوْمَ النَّحْرِ) فذكر مثله سواء. [خ¦1741]
          وفيه: ابْنُ عُمَرَ: (قَالَ النَّبيُّ صلعم بِمِنًى: أَتَدْرُونَ أي يَوْمٍ هَذَا؟) الحديث. [خ¦1742]
          وَقَالَ هِشَامُ بْنُ الْغَازِ: (أَخْبَرَنا نَافِعٌ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَقَفَ النَّبيُّ صلعم يَوْمَ / النَّحْرِ بَيْنَ الْجَمَرَاتِ في الْحَجَّةِ التي حَجَّ، بِهَذَا، وَقَالَ: هَذَا يَوْمُ الْحَجِّ الأَكبرِ(1)، فَطَفِقَ النَّبيُّ صلعم يَقُولُ: اللَّهُمَّ اشْهَدْ، وَدَّعَ النَّاسَ، فَقَالُوا: هَذِهِ حَجَّةُ الْوَدَاعِ).
          اختلف النَّاس في خُطب الحجِّ، فكان مالك يقول: يخطب الإمام في اليوم السَّابع قبل يوم التَّروية بيوم، ويخطب ثاني يوم النَّحر، وهو يوم القرِّ، سمِّي بذلك؛ لأنَّ النَّاس يستقرُّون فيه بمنى. وهو قول أبي حنيفة وأصحابه، ووافقهم الشَّافعيُّ في خطبة اليوم السَّابع يأمرهم بالغدوِّ إلى منى، وخطبة يوم عرفة بعد الزَّوال، وخالفهم فقال: يخطب يوم النَّحر بعد الظُّهر، يعلِّم النَّاس فيها النَّحر والرَّمي والتَّعجيل لمن أراد، وخطبة رابعة: ثالث يوم النَّحر بعد الظُّهر، وهو يوم النَّفر الأوَّل، يودِّع النَّاس ويعلِّمهم أنَّ من أراد التَّعجيل فذلك له، ويأمرهم أن يختموا حجَّهم بتقوى الله وطاعته. واحتجَّ الشَّافعيُّ بخطبة يوم النَّحر بحديث ابن عبَّاس وابن عمر وأبي بكرة ((أنَّ النَّبيَّ صلعم خطب يوم النَّحر))، قال الشَّافعيُّ: وبالنَّاس حاجة إلى هذه الخطبة ليعلِّمهم المناسك، وأن علَّمهم النَّحر والإفاضة إلى مكَّة للطَّواف والعود إلى منى للمبيت بها، فوجب أن يكون ذلك سُنَّة.
          وقال ابن القصَّار: أمَّا خطبة يوم النَّحر فإنَّه ◙ إنَّما وقف للنَّاس فقال: أيُّ يوم هذا؟ وأيُّ شهر هذا؟ وأيُّ بلد هذا؟ فعرَّفهم أنَّ دماءهم وأموالهم وأعراضهم حرام، وأمرهم بتبليغ ذلك لكثرة اجتماعهم من أقاصي الأرض، فظنَّ أنَّه خطب.
          وقال الطَّحاويُّ: لم تكن هذه الخطبة من أسباب الحجِّ؛ لأنَّه ◙ ذكر فيها أمورًا لا يصلح لأحد بعده ذكرها، والخطبة إنَّما هي لتعليم الحجِّ، ولم ينقل أحد عنهم أنَّه علَّمهم يوم النَّحر شيئًا من سنن الحجِّ، فعلمنا أنَّ خطبة يوم النَّحر لم تكن للحجِّ، وإنَّما كانت لما سواه.
          قال ابن القصَّار: وقوله: يحتاج أن يعلِّمهم النَّحر، فقد تقدَّم تعليمهم في خطبته يوم عرفة، وأعلمهم ما عليهم فيه وبعده، وخطب ثاني النَّحر فأعلمهم بما بقي عليهم في يومه وغده، وأنَّ التَّعجيل يجوز فيه، وكذلك خطب قبل يوم التَّروية بيوم وهو بمكَّة، فكانت خطبه ثلاثًا، كلُّ خطبة ليومين، وأمَّا قول الشَّافعيِّ أنَّه يخطب ثالث يوم النَّحر، مع اجتماعهم بأنَّها خطبة يأمر الإمام النَّاس فيها بالتَّعجيل إن شاؤوا، ولمَّا كان ممَّا لم يختلفوا فيه أنَّ الخطبة التي يأمر الإمام النَّاس فيها بالخروج إلى منى قبل الخروج إليها، كان كذلك الخطبة التي يأمرهم فيها بالتَّعجيل في يومين قبل ذلك أيضًا.
          قال ابن الموَّاز: الخطبة الأولى قبل التَّروية بيوم في المسجد الحرام بعد الظُّهر لا يجلس فيها، والثَّانية بعرفة يجلس في وسطها، والثَّالثة بمنى أوَّل يومٍ من أيَّام التَّشريق، وهي بعد الظُّهر لا يجلس فيها، وهي كلُّها تعليم المناسك، ولا يجهر بالقراءة في شيء من صلاتها.
          وقال الطَّبريُّ: معنى قوله ◙: (إنَّ دِماءَكُم وأَموَالَكُم عَلَيكُم حَرامٌ) يريد أنَّ دماء بعضكم وأمواله وأعراضه حرام على البعض الآخر، فأخرج الخبر عن تحريم ذلك على وجه الخطاب لهم؛ إذ كانوا أهل ملَّةٍ واحدةٍ، وكان جميعهم فيما لبعضهم على بعضٍ من الحقِّ في معنى الواحد فيما لنفسه وعليه، وذلك نظير قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ وَلاَ تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ}[النساء:29]والمعنى: لا يأكل بعضكم مال بعض بالباطل، ولا يقتل بعضكم بعضًا، وذلك أنَّ المؤمنين بعضهم إخوة بعض، فما أصاب أخاه من مكروه فكأنَّه المصاب به، ومثله قوله تعالى موبِّخًا لبني إسرائيل الذين كانوا بين ظهراني المسلمين في قتل بعضهم بعضًا وإخراج بعضهم بعضًا من ديارهم: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لاَ تَسْفِكُونَ دِمَاءكُمْ وَلاَ تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُم مِّن دِيَارِكُمْ}[البقرة:84]فأخرج الخبر عن قتل بعضهم لبعض على وجه الخبر عن أنفسهم، وفيه البيان عن أنَّ الله حرَّم من مال المسلم وعرضه نظير الذي حرَّم من دمه، وسوَّى بين جميعه فلا يستحلَّ ماله، وكذلك قال ابن مسعود في خطبته: حُرمة مال المسلم كحرمة دمه.
          فإن قال قائل: فإنَّك تستحلُّ سفك دماء أقوام من المسلمين وأنت لأموالهم محرِّم، وذلك كقطاع الطَّريق والخوارج ومن يجب قتله بحدٍّ لزمه. قيل: أمَّا هؤلاء فإنَّما لزم الإمام سفك دمائهم إقامة لِحدِّ الله الذي وجب عليهم، وليس ذلك استحلالًا لزمه من الوجه الذي سوَّى الله بينه وبين ماله وعرضِه في الحرمة، وإنَّما ذلك عقوبة لجرمه دون ماله، كما أمر بعقوبة آخر في ماله دون بدنه، وليس إلزامه الدِّية استحلالًا لماله من الوجه الذي سوَّى بينه وبين دمه وماله، وإنَّما الوجه الذي سَوَّي بين حُرمة جميع ذلك في ألَّا يتناول شيئًا منه بغير حقٍّ، فحرام أن يُغتابَ أحدٌ بسوءٍ بغير حقٍّ، وكذلك مَالُهُ أخذُ شيءٍ منه حرامٌ بغير حقٍّ كتحريم دمه.
          وأمَّا قوله ◙: (لَا تَرجِعوا بَعدِي كفَّارًا يَضرِبُ بعضُكُم رِقابَ بعضٍ) فإنَّه قد تقدَّم منه ◙ إلى أمَّته بالثُّبوت على الإسلام، وتحريم بعضهم من بعض على نفسه سفك دمه، ما أقاموا على الإسلام، فإن ظنَّ ظانٌّ أنَّ ذلك حكم من النَّبيِّ صلعم لضارب رقبة أخيه المسلم بالكفر فقد أعظم الغفلة وأفحش الخطأ، وذلك أنَّه لا ذنب يوجب لصاحبه الكفر مع الإقرار بالتَّوحيد والنُبوَّة إلَّا بذنب يركبه صاحبه على وجه الاستحلال مع العلم بتحريمه، فأمَّا إذا ركبه معتقدًا تحريمه، فإنَّ ذلك معصيةٌ لله، إن شاء عذَّبه وإن شاء غفر له، فهو بذلك الذَّنب آثم، ومن ملَّة المسلمين غير خارج؛ لقوله تعالى: {إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء}[النساء:48]فإن قال قائل: فما معنى قوله ◙: (لَا تَرجِعوا بَعدِي كُفَّارًا يَضرِبُ بعضُكُم رِقابَ بعضٍ) إذ كان لهم الرُّجوع وهو حيٌّ بينهم كفَّارًا، فيشترط في نهيه النَّهي عن ذلك بعده؟
          قيل: لذلك وجوه مفهومةٌ: أحدها: أن يكون قال لهم: (لا تَرجِعوا بَعدِي كُفَّارًا) لأنَّه قد علم أنَّهم لا يفعلون ذلك وهو فيهم حيٌّ، فقال لهم: لا تفعلوه بعد وفاتي، فأمَّا قبل وفاتي فقد علمت أنَّكم لا تفعلونه بإعلام الله ذلك. والثاني: أن يكون عنى بقوله: (بَعدِي) بعد فراقي من موقفي هذا. والثالث: أن يكون عنى بقوله: (بَعدِي) خلافي، فيكون معنى الكلام: لا ترجعوا خلافي كفَّارًا يضرب بعضكم رقاب بعض، فتخلفوني في أنفسكم بغير الذي أمرتكم به.


[1] قوله: ((الأكبر)) زيادة من المطبوع.