شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب توريث دور مكة وبيعها

          ░44▒ بَاب: تَوريثِ دُورِ مكَّةَ وبَيعها وشِرائها.
          وأنَّ النَّاسَ في المسجدِ الحَرامِ سواء خاصَّة، لقول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاء الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ}[الحج:25].
          فيه: أُسَامَةُ أَنَّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَيْنَ تَنْزِلُ في دَارِكَ بِمَكَّةَ؟ فَقَالَ: (وَهَلْ تَرَكَ لَنَا(1) عَقِيلٌ مِنْ رِبَاعٍ أَوْ دُورٍ). وَكَانَ عَقِيلٌ وَرِثَ أَبَا طَالِبٍ، هُوَ وَطَالِبٌ، وَلَمْ يَرِثْهُ جَعْفَرٌ وَلا عَلِيٌّ شَيْئًا لأنَّهُمَا كَانَا مُسْلِمَيْنِ، وَكَانَ عَقِيلٌ وَطَالِبٌ كَافِرَيْنِ، وكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَقُولُ: لا يَرِثُ الْمُؤْمِنُ الْكَافِرَ. [خ¦1588]
          قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: وَكَانُوا يَتَأَوَّلُونَ قَوْلَ اللهِ(2): {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ في سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ}الآية[الأنفال:72].
          اختلف السَّلف في تأويل قوله تعالى: {سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ}[الحج:25]فرُوي عن عطاء أنَّه قال: النَّاس في البيت سواء ليس أحدٌ أحقَّ به من أحدٍ، ورُوي نحوه عن ابن عبَّاس، وقال مجاهد: أهل مكَّة وغيرهم في المنازل سواء.
          قال الطَّحاويُّ: وقد اختلف العلماء في بيعها وكرائها، فذكر(3) عن عطاء ومجاهد أنَّه لا يحلُّ بيع أرض مكَّة ولا كراؤها(4)، وهو قول أبي حنيفة والثَّوريُّ ومحمَّد، وكره مالك بيعها وكراءها.
          وخالفهم آخرون فقالوا: لا بأس ببيع أرضها وإجارتها، وجعلوها كسائر البلدان، هذا قول أبي يوسف، وذكر(5) ابن المنذر عن الشَّافعيِّ وطاوس(6) إباحة الكرى،(7) وكان أحمد بن حنبل يتوقَّى الكراء في الموسم، ولا يرى بأسًا بالشِّراء، واحتجَّ بأنَّ عمر اشترى دار السِّجن بأربعة آلاف.
          قال الطَّحاويُّ: واحتجَّ من أجاز بيعها وكراءها بحديث أسامة لأنَّه ذكر فيه ميراث عقيل وطالب لما تركه أبو طالب فيها من رباع ودور، قال الشَّافعيُّ: فأضاف الملك إليه وإلى من ابتاعها منه(8). /
          قال الطَّحاويُّ: واعتبرنا ذلك فرأينا المسجد الحرام الَّذي كلُّ النَّاس فيه سواء لا يجوز لأحدٍ أن يبتني فيه بناء، ولا يحتجز منه موضعًا، وكذلك حكم جميع المواضع الَّتي لا يقع لأحدٍ فيها مُلك وجميع النَّاس فيها سواء، ألا ترى أنَّ عرفة لو أراد رجل أن يبتني في المكان الَّذي يقف النَّاس فيه منها بناء لم يكن له ذلك، وكذلك منًى لو أراد أن يبتني فيها دارًا كان من ذلك ممنوعًا.
          وكذلك جاء الأثر عن النَّبيِّ ◙، روى إبراهيم بن مهاجر عن يوسف بن مَاهَك، عن أمِّه، عن عائشة أنَّها قالت: ((يَا رسولَ اللهِ، ألا تتَّخذُ لكَ بمنًى شيئًا تستظلُّ فيهِ؟ قال: يا عائشةُ، إنَّها مُناخٌ لمنْ سَبقَ)) وكانت أمُّ يوسف بن ماهَكَ تخدم عائشة فسألت مكان عائشة بعدما توفِّي النَّبيُّ صلعم أن تعطيها إيَّاه فقالت لها عائشة: لا أحلُّ لك ولا لأحدٍ من أهل بيتي أن يستحلَّ هذا المكان، تعنى مِنًى، فهذا حكم المواضع الَّتي النَّاس فيها سواء ولا ملك لأحدٍ عليها.
          ورأينا مكَّة على غير ذلك، قد أُجيز البناء فيها، وقال رسول الله(9) صلعم يوم دخلها: ((مَنْ دَخَلَ دارَ أبي سفيانَ فهوَ آمنٌ، ومنْ أغلقَ عليه(10) بابَهُ فهوَ آمنٌ)). فأثبت لهم أملاكهم، فلمَّا كانت ممَّا يغلق عليه الأبواب وممَّا يُبنى فيها المنازل كانت صفتها صفة المواضع الَّتي تجري عليها الأملاك وتقع فيها المواريث.
          وقال(11) غيره: ألا ترى أنَّ عمر اشترى دار السجن من صفوان، ومحال أن يشتري منه ما لا يجوز له ملكه، وقد ثبت عن الصَّحابة ♥ أنَّهم كانت لهم الدُّور بمكَّة، منهم أبو بكر الصِّدِّيق، والزُّبير بن العوَّام، وحكيم بن حزام، وعمرو بن العاص(12)، وصفوان بن أميَّة وغيرهم، وتبايع أهل مكَّة لدورهم قديمًا أشهر من أن يخفى.
          واحتجَّ الَّذين كرهوا بيع دور(13) مكَّة وكراءها بحديث علقمة بن نَضْلَة قال: ((توفِّيَ رسول الله صلعم وأبو بكرٍ وعمرُ ومَا ترعَى رباعُ مكَّةَ إلَّا السَّوائبُ)). وبما رواه نافع، عن ابن عمر أنَّ عمر كان ينهى أن تغلق دور مكَّة في زمن الحاجِّ.
          وقال(14) إسماعيل بن إسحاق: وما رواه(15) مجاهد في الآية فظاهر القرآن يدلُّ على أنَّه المسجد الَّذي يكون فيه النُّسك والصَّلاة، لا سائر دور(16) مكَّة، قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ}[الحج:25]أي(17) ويصدُّون عن المسجد الحرام، وقال تعالى: {يَسْأَلُونَكَ(18) عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ}[البقرة:217]أي وعن المسجد الحرام(19) فدلَّ ذلك كلُّه على أنَّ الَّذي كان المشركون يفعلونه هو التَّملُّك على المسجد الحرام وادِّعاؤهم أنَّهم أربابه وولاته(20)، وأنَّهم منعوا(21) منه مَن(22) أرادوا ظلمًا، وأنَّ النَّاس كلَّهم فيه سواء، فأمَّا المنازل والدُّور فلم تزل لأهل مكَّة غير أنَّ المواساة تجب إذ(23) كانت الضَّرورة، ولعلَّ عمر ☺ فعل ذلك(24) على طريق المواساة عند الحاجة والله أعلم.
          وقال أبو عبد الله بن أبي صُفرة: وحديث أسامة حجَّة في أنَّ من خرج من بلده مسلمًا وبقي أهله وولده في دار الكفر ثمَّ غزا مع المسلمين بلده أنَّ أهله وماله وولده على حكم البلد كما كانت دار النَّبيِّ ◙ على حكم البلد وملكه(25)، ولم ير نفسه ◙ أحقَّ بها، وهذا قول مالك في «المدوَّنة»، وبه قال اللَّيث، وسيأتي اختلاف العلماء في هذه المسألة في كتاب الجهاد في باب إذا غنم المشركون مال المسلمين(26) ثمَّ وجده المسلم، إن شاء الله تعالى(27)، [خ¦3067] وبيان(28) مذاهبهم فيها، وفي حديث أسامة أنَّ المسلم لا يرث الكافر، وسيأتي بيان ذلك أيضًا في كتاب الفرائض إن شاء الله تعالى. [خ¦6764]


[1] قوله: ((لنا)) ليس في (م).
[2] في (م): ((قوله ╡)).
[3] في (م): ((فروي)).
[4] في (م): ((كراء بيوتها)).
[5] في (م): ((وذكره)).
[6] في (م): ((وعن طاوس)).
[7] زاد في (م): ((قال)).
[8] قوله: ((ما يُسْرِعُ النَّاس إلى إنكاره وإن كان صوابًا، وقد رُوي أنَّ هارون الرَّشيد.......قال الشَّافعيُّ: فأضاف الملك إليه وإلى من ابتاعها منه)) الورقة ليست في المخطوط (ص).
[9] قوله: ((الله)) ليس في (ز) وأثبت من (م).
[10] قوله: ((عليه)) زيادة من (م).
[11] في (م): ((قال)).
[12] في (م): ((العاصي)).
[13] في (م): ((البيع لدور)).
[14] في (م): ((قال)).
[15] في (م): ((تأول)).
[16] قوله: ((دور)) ليس في (م).
[17] قوله: ((أي)) ليس في (م).
[18] في النسخ و(ص): ((ويسألونك)).
[19] وفي (م): ((ويصدون عن المسجد الحرام، وقال تعالى: {هم الذين كفروا وصدوكم عن المسجد الحرام} وقال تعالى: {ويسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله} أي: وعن المسجد الحرام)).
[20] في (م): ((وولائه)).
[21] في (م): ((يمنعون)).
[22] في (ز): ((ومن)) والمثبت من (م) و(ص).
[23] في (م): ((إذا)).
[24] في (م): ((هذا)).
[25] في (م): ((وملكهم))، قوله: ((وملكه)) ليس في (ص).
[26] في (ز): ((المسلمين)) والمثبت من (م) و(ص).
[27] قوله: ((ثم وجده المسلم، إن شاء الله تعالى)) زيادة من (م)، وليس في (ص).
[28] في (م): ((وسيأتي)).