شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب الطيب بعد رمي الجمار والحلق قبل الإفاضة

          ░143▒ باب: الطِّيبِ بَعْدَ رَمْيِ الْجِمَارِ وَالْحَلْقِ قَبْلَ الإفَاضَةِ
          فيه: عَائِشَةُ: (طَيَّبْتُ رَسُولَ اللهِ بِيَدَيَّ هَاتَيْنِ حِينَ أَحْرَمَ، وَلِحِلِّهِ حِينَ أَحَلَّ قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ، وَبَسَطَتْ يَدَيْهَا). [خ¦1754]
          قال ابن المنذر: واختلف العلماء فيما أبيح للحاجِّ بعد رمي جمرة العقبة قبل الطَّواف بالبيت، فروي عن ابن عبَّاس وابن الزُّبير وعائشة أنَّه يحلُّ له كلُّ شيءٍ إلَّا النِّساء، وهو قول سالم وطاوس والنَّخعيِّ، وإليه ذهب أبو حنيفة والشَّافعيُّ وأحمد وإسحاق وأبو ثور، واحتجُّوا بحديث عائشة في إباحة الطِّيب لمن رمى جمرة العقبة قبل طواف الإفاضة، وقالوا: سنَّة رسول الله حجَّة على من خالفها.
          قال ابن المنذر: قولها: (وَلِحِلِّهِ) يدلُّ أنَّه حلال من كلِّ شيء إلَّا النِّساء الذي دلَّ على المنع منه الخبر والإجماع، وروي عن عُمَر بن الخطَّاب وابنه أنَّه يحلُّ له كلُّ شيءٍ إلَّا النِّساء والطِّيب.
          قال مالك: يحلُّ له كلُّ شيءٍ إلَّا النِّساء والصَّيد. ذكره ابن الموَّاز، وقال في «المدوَّنة»: أكره لمن رمى جمرة العقبة أن يتطيَّب حتَّى يفيض؛ فإن فعل فلا شيء عليه لما جاء فيه. فعلى هذا القول الصَّحيح من مذهب مالك أنَّه يحلُّ له كلُّ شيءٍ إلَّا النِّساء والصَّيد.
          واحتجَّ ابن القصَّار لمالك في تحريم الصَّيد على من لم يفض بقوله: {لاَ تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ}[المائدة:95]وليس إذا أحلَّ له الحلق يخرج عن كونه محرمًا؛ لأنَّ الحلق والطِّيب واللِّباس قد أبيح على وجه، ولم يخرج بذلك عن كونه محرمًا، فلذلك يحلُّ له بعد الرَّمي أشياء، ويبقى عليه تحريم أشياء وهو محرم، وقوله تعالى: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا}[المائدة:2]فاقتضى الإحلال التَّمام، وألَّا يبقى شيء من الإحرام بعد الإحلال المطلق، ومن بقيت عليه الإفاضة فلم يحلل الإحلال التَّامَّ، ومثله قوله تعالى: {وَأُوْلاَتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ}[الطلاق:4]فلو وضعت واحدًا وبقي في بطنها آخر لم تكن قد وضعت الوضع التَّامَّ؛ لأنَّ الرَّجعة قبل وضعها الثَّاني تصحُّ.
          واحتجَّ الطَّحاويُّ لأصحابه بما رواه عن عليِّ بن مَعْبَد، حدَّثنا يزيد بن هارون، حدَّثنا الحجَّاج بن أرطأة، عن أبي بكر بن محمَّد بن(1) عَمْرو بن حزم، عن عَمْرة، عن عائشة قالت: قال رسول الله صلعم: ((إذا رمَيتُم وحلَقتُم فقد حلَّ لكم الطِّيبُ والثِّيابُ وكلُّ شيءٍ إلَّا النِّساء)) وبما روى سفيان، عن سلمة بن كُهَيل، عن الحسن العُرَني، عن ابن عبَّاس قال: إذا رميتم الجمرة فقد حلَّ لكم كلُّ شيءٍ إلَّا النِّساء، فقال له رجل: والطِّيب؟ فقال: أمَّا أنا فقد رأيت رسول الله صلعم يضمِّخ رأسه بالمسك، أفطيب هو؟
          وروى أفلح بن حميد، عن أبي بكر بن حزم قال: دعانا سليمان بن عبد الملك يوم النَّحر، أرسل إلى عُمَر بن عبد العزيز والقاسم وسالم وخارجة بن زيد وعبد الله بن عبد الله بن عمر(2) وابن شهاب فسألهم عن الطِّيب في هذا اليوم قبل الإفاضة، فقالوا: تطيَّب يا أمير المؤمنين.
          قال ابن المنذر: واختلفوا فيمن جامع بعد رمي الجمرة يوم النَّحر قبل الإفاضة، فروي عن ابن عمر أنَّ عليه حجَّة قابل، وعن الحسن والنَّخعيِّ والزُّهريِّ مثله.
          وقال النَّخَعِيُّ والزُّهريُّ: وعليه الهدي مع حجِّ قابل. وقال ربيعة ومالك: يعتمر من التَّنعيم ويهدي.
          وقال أحمد وإسحاق: يعتمر من التَّنعيم. وقال ابن عبَّاس: عليه بدنة، وحَجُّهُ تامٌّ. وعن عطاء والشَّعبيِّ مثله، وهو قول الكوفيِّين والشَّافعيِّ وأبي ثور.


[1] في (ص): ((عن)) والمثبت من المطبوع.
[2] في (ص): ((بن عمرو)) والمثبت من المطبوع.