شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب التلبية والتكبير غداة النحر حين يرمي الجمرة

          ░101▒ باب: التَّلْبِيَةِ وَالتَّكْبِيرِ غَدَاةَ النَّحْرِ حَتَّى يَرْمِي جَمرَةَ العَقبةَ وَالارْتِدَافِ في السَّيرِ
          فيه: ابْنُ عَبَّاسٍ: (أَنَّ النَّبيَّ صلعم أَرْدَفَ الْفَضْلَ، فَأَخْبَرَ الْفَضْلُ أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ يُلَبِّي حَتَّى رَمَى الْجَمْرَةَ. وَقَالَ: إنَّ أُسَامَةَ: لَمْ يَزَلِ رِدْفَ رَسُولِ اللهِ مِنْ عَرَفَةَ إلى الْمُزْدَلِفَةِ، ثُمَّ أَرْدَفَ الْفَضْلَ مِنَ الْمُزْدَلِفَةِ إلى مِنًى، قَالَ: فَكِلاهُمَا، قَال: لَمْ يَزَلِ الرَّسُولُ صلعم يُلَبِّي حَتَّى رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ). [خ¦1685]
          اختلف السَّلف في الوقت الذي يقطع الحاجُّ فيه التَّلبية، فذهبت طائفة إلى حديث الفضل وأسامة وقالوا: يلبي الحاجُّ حتَّى يرمي جمرة العقبة. روي هذا عن ابن مسعود وابن عبَّاس، وبه قال عطاء وطاوس والنَّخعيُّ وابن أبي ليلى والثَّوريُّ وأبو حنيفة والشَّافعيُّ وأحمد وإسحاق، وقالوا: يقطعها مع أوَّل حصاة يرميها من جمرة العقبة، إلَّا أحمد وإسحاق فإنَّه يقطعها عندهما إذا رمى الجمرة بأسرها، على ظاهر الحديث.
          وروي عن عليِّ بن أبي طالب أنَّه كان يلبِّي في الحجِّ، فإذا زاغت الشَّمس من يوم عرفة قطع التَّلبية، قال مالك: وذلك الأمر الذي لم يزل عليه أهل العلم ببلدنا. وقال ابن شهاب: وفعل ذلك الأئمَّة أبو بكر وعمر وعثمان وعائشة وابن المسيِّب، وذكر ابن المنذر عن سعيد مثله، وذكره الطَّحاويُّ عن مكحول، وكان ابن الزُّبير يقول: أفضل الدُّعاء يوم عرفة التَّكبير. وروي معناه عن جابر بن عبد الله.
          واحتجَّ ابن القصَّار لمالك وأهل المدينة فقال في حديث ابن عبَّاس وأسامة: لو فعل ذلك النَّبيُّ صلعم على أنَّه المستحبُّ عنده لم تخالفه الصَّحابة بعده، فيحتمل أنَّه أراد ألَّا يقطع التَّلبية عند زوال الشَّمس؛ لأنَّ النَّاس كانوا يتلاحقون به يوم عرفة وليلة النَّحر إلى طلوع الفجر وهو آخر الوقت الذي به يدرك عرفة حتَّى لا يبقى أحد إلَّا سمع تلبيته؛ لأنَّه صاحب الشَّرع، فأعلمهم أنَّها تجوز إلى هذا الوقت، ويكون المستحبُّ لنا عند الزَّوال بعرفة لما قد تقرَّر من اختيار الصَّحابة له، وهم الذين أمرنا بالاقتداء بهم؛ لأنَّهم المبلغون للسُّنن، والمفسِّرون لها، فوجب اتِّباع سبيلهم واختيار ما اختاروه، والرَّغبة عمَّا رغبوا عنه.
          وتأوَّل الطَّحاويُّ في قطع الصَّحابة للتَّلبية عند الرَّواح إلى عرفة أنَّ ذلك لم يكن على أنَّ وقت التَّلبية قد انقطع، ولكن لأنَّهم كانوا يأخذون فيما سواها من الذِّكر والتَّكبير والتَّهليل، كما لهم أن يفعلوا ذلك قبل يوم عرفة أيضًا، وقد تقدَّم في باب: التَّلبية [خ¦1549] ولا يكبِّر إذا غدا من منى إلى عرفة، أنَّ التَّلبية هي الإجابة لما دعي إليه، فإذا بلغ عرفة فقد بلغ غاية ما يدرك الحاجُّ بإدراكه، ويفوت بفوته، فلذلك يقطع التَّلبية عند بلوغ النِّهاية، وقد تقدَّم ذكر الارتداف في السَّير في أوَّل كتاب الحجِّ. [خ¦1513]
          وقال ابن المنذر: ثبت أنَّ النَّبيَّ صلعم رمى الجمرة يوم النَّحر على راحلته، وقال به مالك فرأى أن يرمي جمرة العقبة يوم النَّحر راكبًا؛ اقتداءً بالنَّبيِّ صلعم وفي غير يوم النَّحر ماشيًا، وكره مالك أن يركب إلى شيء من الجمار إلَّا من ضرورة، وكان ابن عمر وابن الزُّبير وسالم يرمون الجمار إلَّا من ضرورة، وكان ابن عمر وابن الزُّبير وسالم يرمون الجمار وهم مشاة، واستحبَّ ذلك أحمد وإسحاق، قال الطَّبريُّ: وإنَّما قيل لها: جمرة؛ لأنَّها حجارة مجتمعة، وكلُّ شيء مجتمع فهو عند العرب جمرة وجمار، ومنه قولهم: أَجْمَرَ السُّلطانُ جيشهَ في الثَّغر، بمعنى: جَمَعَهُم فيه، ومنه قيل لأحياء من العرب تجمَّعت: جمار وجمرات. /