شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب قول الله تعالى: {الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج}

          ░33▒ باب: قوله تعالى(1): {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ في الْحَجِّ}[البقرة:197]، وَقَوْلِهِ: {يَسْأَلُونَكَ(2) عَنِ الأهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ}[البقرة:189].
          وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: أَشْهُرُ الْحَجِّ: شَوَّالٌ، وَذُو الْقَعْدَةِ، وَعَشْرٌ مِنْ ذي الْحَجَّةِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مِنَ السُّنَّةِ أَنْ لا يُحْرِمَ بِالْحَجِّ(3) إِلَّا في أَشْهُرِ الْحَجِّ، وَكَرِهَ عُثْمَانُ أَنْ يُحْرِمَ مِنْ خُرَاسَانَ أَوْ كَرْمَانَ.
          فيه: الْقَاسِم، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ(4): (خَرَجْنَا مَعَ النَّبيِّ(5) صلعم في أَشْهُرِ الْحَجِّ وَلَيَالِيَ الْحَجِّ وَحُرُمِ الْحَجِّ، فَنَزَلْنَا بِسَرِفَ، فَخَرَجَ إلى أَصْحَابِهِ، فَقَالَ: مَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْكُمْ(6) مَعَهُ هَدْيٌ فَأَحَبَّ أَنْ يَجْعَلَهَا عُمْرَةً فَلْيَفْعَلْ، وَمَنْ كَانَ مَعَهُ الْهَدْيُ فَلا، قَالَتْ: فَالآخِذُ بِهَا وَالتَّارِكُ لَهَا(7) مِنْ أَصْحَابِهِ، قَالَتْ: فَأَمَّا رَسُولُ اللهِ صلعم وَرِجَالٌ مِنْ أَصْحَابِهِ فَكَانُوا أَهْلَ قُوَّةٍ، وَكَانَ مَعَهُمُ الْهَدْيُ، فَلَمْ يَقْدِرُوا على الْعُمْرَةِ، قَالَتْ(8): / فَدَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللهِ صلعم، وَأَنَا أَبْكِي، قَالَ(9): مَا يُبْكِيكِ يَا هَنْتَاهُ؟ قُلْتُ: سَمِعْتُ قَوْلَكَ لأصْحَابِكَ فَمُنِعْتُ العُمْرَةَ(10) قَالَ: وَمَا شَأْنُكِ؟ قُلْتُ: لا أُصَلِّي، قَالَ: فَلا(11) يَضِيرُكِ إِنَّمَا أَنْتِ امْرَأَةٌ مِنْ بَنَاتِ آدَمَ، كَتَبَ اللهُ عَلَيْكِ مَا كَتَبَ عَلَيْهِنَّ(12)، فَكُونِي في حَجَّتِكِ فَعَسَى(13) اللهُ أَنْ يَرْزُقَكِيهَا، قَالَتْ(14): فَخَرَجْنَا في حَجَّتِهِ(15) حَتَّى قَدِمْنَا مِنًى، فَطَهَرْتُ، ثُمَّ خَرَجْتُ مِنْ مِنًى، فَأَفَضْتُ بِالْبَيْتِ، قَالَتْ: ثُمَّ خَرَجَتْ مَعَهُ في النَّفْرِ الآخِرِ حَتَّى نَزَلَ الْمُحَصَّبَ، وَنَزَلْنَا مَعَهُ، فَدَعَا عبدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أبي بَكْرٍ(16)، قَالَ: فاخْرُجْ(17) بِأُخْتِكَ مِنَ الْحَرَمِ، فَلْتُهِلَّ بِعُمْرَةٍ، ثُمَّ افْرُغَا، ثُمَّ ائْتِنا(18)، فَإِنِّي أَنْظُرُكُمَا حَتَّى تَأْتِيَانِي، قَالَتْ: فَخَرَجْنَا حَتَّى إِذَا فَرَغْتُ، وَفَرَغْتُ مِنَ الطَّوَافِ، ثُمَّ جِئْتُهُ سَحَرًا(19)، قَالَ(20): هَلْ فَرَغْتُمْ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، فَآذَنَ بِالرَّحِيلِ في أَصْحَابِهِ، فَارْتَحَلَ النَّاسُ فَمَرَّ مُتَوَجِّهًا إلى الْمَدِينَةِ). [خ¦1560]
          قال ابن المنذر: اختلف العلماء في معنى قوله: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ}[البقرة:197]فقالت طائفةٌ: شوَّال، وذو القعدة، وعشرٌ من ذي الحجَّة، وهو قول ابن مسعود وابن عبَّاسٍ وابن الزُّبير، وروي عن الشَّعبيِّ والنَّخعيِّ وعطاء والثَّوريِّ وأبي حنيفة والأوزاعيِّ والشَّافعيِّ وأبي ثورٍ.
          قال ابن القصَّار: وقد روي مثله عن مالك، والمشهور عن مالك أنَّها ثلاثة: شوَّال وذو القعدة وذو الحجَّة كلُّه.
          قال ابن المنذر: واختلف(21) عن ابن عبَّاسٍ وابن عمر في ذلك، فروي عنهما كما قال ابن مسعود، ورُوي عنهما كقول مالك، وكان الفَرَّاء يقول: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ}[البقرة:197]قال: الأشهر رفع ومعناه: وقت الحجِّ أشهر معلومات، وقال غيره: تأويله أنَّ الحجَّ في أشهرٍ معلوماتٍ.
          واختلف العلماء فيمن أحرم بالحجِّ في غير أشهر الحجِّ، فقال ابن عبَّاسٍ: لا ينبغي لأحدٍ أن يهلَّ بالحجِّ في غير أشهر الحجِّ لقول الله تعالى: {فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ}[محمد:33]وهو قول جابر بن عبد الله، وقال الشَّافعيُّ وأبو ثورٍ: لا ينعقد إحرامه بالحجِّ، لكنَّه ينعقد بعمرةٍ، وهو مذهب عطاء وطاوس، وبه قال الأوزاعيُّ وأحمد وإسحاق، واحتجُّوا بقوله: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ}[البقرة:197]وقالوا: لو انعقد الإحرام(22) في غيرها لم يكن لتخصيصها فائدة، واحتجُّوا أيضًا بقول عائشة: (خَرَجنَا مَعَ رَسُول ِاللهِ صلعم فِي أَشهُرِ الحَجِّ ولَيَالِي الحَجِّ وَحُرُمِ الحَجِّ).
          وقال آخرون: من أحرم في غير أشهر الحجِّ لزمه، رُوي هذا عن النَّخَعِيِّ، وهو قول أهل المدينة والثَّوريِّ والكوفيِّين، إلَّا أنَّ المستحبَّ عند مالك ألَّا يحرم في غير أشهر الحجِّ، فإن فعل لزمه، وهو حرامٌ حتَّى يحجَّ.
          وقالوا: إِنَّ ذِكْرَ اللهِ في الحجِّ الأشهر المعلومات إنَّما معناه عندهم على التَّوسعة والرِّفق بالنَّاس، والإعلام بالوقت الَّذي فيه يتأدَّى الحجُّ، فأخبرهم تعالى بما يقرب من ذلك الوقت، وبيَّن ذلك بقوله ◙: ((الحجُّ عرفاتٌ)) وبنحره يوم النَّحر، ورميه الجمار في ذلك اليوم وما بعده، فمن ضيَّق على نفسه وأحرم بالحجِّ قبل أشهر الحجِّ فهو في معنى من أحرم بالحجِّ من بلده قبل الميقات، ويعضد هذا قوله تعالى: {وَلاَ تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ}[محمد:33]وقوله: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لله}[البقرة:196]ولم يخصَّ محرمًا من محرمٍ.
          قال ابن القصَّار: ولا يمتنع أن يجعل الله الأشهر(23) كلَّها وقتًا لجواز الإحرام فيها، ويجعل شهور الحجِّ وقت الاختيار، وهذا سائغٌ في الشَّريعة.
          قال المُهَلَّب: وقول عائشة: (نَزَلنا(24) بِسَرِفَ) فإنَّما ذكرت المآل لأنَّ سرف هو أوَّل حدود مكَّة، ولم تذكر ما كانوا(25) أحرموا به ميقات ذي الحليفة، ولم يكن في الحديث دليل على ما كانوا أحرموا به(26) أوَّلا لأنَّه قال: (مَنْ لَم يَكُن مَعَهُ هَديٌ فَليَجعَلهَا عُمْرةً). وهذا يدلُّ أنَّها كانت حجَّةٌ مفردةٌ، ولو كانت قرانًا لقال: فليجعلهما(27)، وإنَّما أمر بالفسخ من أفرد لا من قرن ولا من أهلَّ بعمرةٍ، لأنَّهم أمرهم كلَّهم أن يجعلوها عمْرةً ليتمتَّعوا بالعمرة إلى الحجِّ.
          وقولها: (حَتَّى قَدِمنَا مِنًى فَطَهَرتُ) تريد ثاني يوم النَّحر لأنَّ أيَّام منى ثلاثة أيَّام بعد يوم النَّحر، وسيأتي اختلاف النَّاس في الرَّفث والفسوق في الجزء الثَّاني من الحجِّ إن شاء الله. [خ¦1819]
          وقوله: (يَا هَنتَاهُ) هي كلمة يُكنى بها عن اسم الإنسان يُقال للمرأة: يا هنتاه، أي: يا مرأة، وللرَّجل يا هناه، أي: يا رجل، ولا يستعمل(28) في غير النَّداء، ذكره سيبويه وقال(29): هو مثل قولهم: يا غُدار ويا لُكاع ويا فُساق، ولا يُستعمل ذلك إلَّا في النِّداء خاصَّة.


[1] في (م): ((قول الله تعالى)).
[2] في (م): ((في الحج، ويسألونك)).
[3] قوله: ((بالحج)) ليس في (م).
[4] قوله: ((قالت)) ليس في (م).
[5] في (م): ((رسول الله)).
[6] قوله: ((منكم)) ليس في (م).
[7] قوله: ((لها)) ليس في (م).
[8] قوله: ((قالت)) ليس في (م).
[9] في (م): ((فقال)).
[10] قوله: ((فمنعت العمرة)) زيادة من (م)، وليس في (ص).
[11] في (م): ((لا)).
[12] قوله: ((إِنَّمَا أَنْتِ امْرَأَةٌ مِنْ بَنَاتِ آدَمَ، كَتَبَ اللهُ عَلَيْكِ مَا كَتَبَ عَلَيْهِنَّ)) ليس في (م).
[13] في (م): ((في حجك عسى)).
[14] قوله: ((قالت)) ليس في (م).
[15] في (م): ((حجه)).
[16] قوله: ((ابن أبي بكر)) ليس في (م).
[17] في (م): ((فقال اخرج)).
[18] في (م): ((ثم ائتيا هاهنا)).
[19] في (م): ((بسحر)).
[20] في (م): ((فقال)).
[21] في (م): (وقد اختلف).
[22] زاد في (م): ((بالحج)).
[23] في (م): ((الشهور)).
[24] في (م) صورتها: ((قولنا)).
[25] قوله: ((كانوا)) ليس في (م).
[26] قوله: ((ميقات ذي الحليفة؛ ولم..... أحرموا به)) زيادة من (م)، وليس في (ص).
[27] صورتها في (ز): ((فليجعلها)) والمثبت من (م).
[28] في (م): ((ولا يستعملان)).
[29] قوله: ((قال)) ليس في (ص).