شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب وجوب الحج وفضله

          ░1▒ وُجُوبِ(1) الْحَجِّ وَفَضْلِهِ.
          وَقَوْلِ اللهِ تعالى: {وَلِلَّهِ على النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ}[آل عِمْرَان:97]. /
          فيه: ابْنُ عَبَّاسٍ قَالَ(2): (كَانَ الْفَضْلُ(3) رَدِيفَ رَسُولِ اللهِ صلعم، فَجَاءَتِ امْرَأَةٌ مِنْ خَثْعَمَ(4)، فَجَعَلَ الْفَضْلُ يَنْظُرُ إِلَيْهَا، وَتَنْظُرُ إِلَيْهِ(5)، فجَعَلَ النَّبيُّ(6) صلعم يَصْرِفُ وَجْهَ الْفَضْلِ إلى الشِّقِّ الآخَرِ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ فَرِيضَةَ اللهِ على عِبَادِهِ في الْحَجِّ أَدْرَكَتْ أبي شَيْخًا كَبِيرًا لا يَثْبُتُ على الرَّاحِلَةِ، أَفَأَحُجُّ عَنْهُ؟ قَالَ: نَعَمْ، وَذَلِكَ في حَجَّةِ الْوَدَاعِ). [خ¦1513]
          أجمع العلماء(7) أنَّ على المرء في عمره حجَّةً واحدةً، حجَّة الإسلام إذا كان مستطيعًا. واختلفوا في الاستطاعة، فذهبت طائفةٌ إلى أنَّ من قَدر على الوصول(8) ببدنه فقد لزمه فرض الحجِّ وإن لم يجد راحلة، وهو بمنزلة من يجد الرَّاحلة ولا يقدر على المشي، وهو قول ابن الزُّبير وعكرمة والضَّحَّاك، وبه قال مالك، وذهب الحسن البصريُّ ومجاهد وسعيد بن جبير إلى أنَّ الاستطاعة الزَّاد والرَّاحلة، وبه قال أبو حنيفة(9) والشَّافعيُّ وأحمد وإسحاق.
          قال المُهَلَّب: في(10) هذا الحديث أنَّ الاستطاعة لا تكون الزَّاد والرَّاحلة، ألا ترى أنَّ(11) ما اعتذرت به هذه المرأة عن أبيها ليس بزادٍ ولا راحلةٍ، وإنَّما كان ضعف جسمه، فثبت أنَّ الاستطاعة شائعة كيفما وقعت وتمكَّنت.
          قال ابن القصَّار: والاستطاعة(12) في لسان العرب القدرة، فإن جعلناها عمومًا في كلِّ قادرٍ جاز، سواء قدر ببدنه، أو ببدنه وماله، أو بماله، إلَّا أن تقوم دلالة. وإن قلنا: إن حقيقة الاستطاعة أن تكون صفة قائمة في المستطيع كالقدرة والكلام والقيام والقعود، فينبغي أن تكون الاستطاعة صفة فيه تختصُّه وهذا لا يكون إلَّا لمن هو مستطيع ببدنه دون ماله.
          فإن احتجُّوا بما رُوي عن الرَّسول(13) ◙ أنَّه قال: ((السَّبيلُ الزَّادُ والرَّاحلةُ)) فإنَّ(14) ابن معين وغيره قالوا: رواية إبراهيم الخوزيِّ، وهو ضعيفٌ. وقال ابن المنذر: لا يثبت الحديث الَّذي فيه ذكر الزَّاد والرَّاحلة، وليس بمتَّصل، والآية عامَّةٌ ليست مجملةٌ ولا(15) تفتقر إلى بيان، فكأنَّه تعالى كلَّف كلَّ مستطيع(16) قدر بمال أو ببدن، والدَّليل على ذلك قوله ◙: ((لَا تحلُّ الصَّدقةُ لغنيٍّ، ولا لذي مِرَّةٍ سَويٍّ))، فجعل صحَّة الجسم مساويةً للغنى، فسقط قول من اعتبر الرَّاحلة، وقال إسماعيل بن إسحاق: لو أنَّ رجلًا كان في موضعٍ يمكنه المشي إلى الحجِّ وهو لا يملك راحلة لوجب عليه الحجُّ لأنَّه مستطيعٌ إليه سبيلًا.
          وما رُوي عن السَّلف في ذلك أنَّ السَّبيل الزَّاد والرَّاحلة فإنَّما أرادوا(17) التَّغليظ على من ملك هذا المقدار ولم يحجَّ لأنَّهم ذكروا أقلَّ الأملاك الَّتي يبلغ بها الإنسان إلى الحجِّ، فإن قيل: فإنَّها(18) عبادة تتعلَّق بقطع مسافة بعيدة فوجبت(19) فيها الرَّاحلة، أصله الجهاد، قيل: لا فرق بينهما، وعندنا أنَّ من تعيَّن عليه فرض الجهاد وهو قادرٌ ببدنه على المشي(20) فليست الرَّاحلة شرطًا في وجوبه عليه لأنَّه منكسرٌ بالهجرة، وسيأتي بعض معاني هذا الحديث في باب الحجِّ عمَّن لا يستطيع الثُّبوت على الرَّاحلة من هذا الكتاب إن شاء الله. [خ¦1854]
          قال المُهَلَّب: وفيه من الفقه جواز الارتداف لسادة النَّاس ورؤسائهم، ولا سيَّما في الحجِّ لتزاحم النَّاس، ومشقَّة الرَّجَّالة، ولأنَّ الرَّاكب فيه أفضل، ولا خلاف بين العلماء في جواز ركوب نفسين على دابَّةٍ إذا أطاقت الدَّابَّة ذلك، وفي نظر الفضل إلى المرأة مغالبة طباع البشر لابن آدم وضعفه عمَّا رُكِّب فيه من شهوات النِّساء، وفيه أنَّ على العالم أن يغيِّر من المنكر ما يمكنه إذا رآه، وسيأتي بقيَّة القول في قصَّة الفضل بن عبَّاس في كتاب الاستئذان في باب قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ}[النور:27]. [خ¦6228]
          وذكر ابن المنذر قال: حدَّثنا محمَّد بن إسماعيل الصَّايغ: حدَّثنا عفَّان: حدَّثنا سُكَين بن عبد العزيز قال: حدَّثني أبي قال: سمعت ابن عبَّاس يقول: ((كانَ الفضلُ رديفَ رسولِ الله صلعم يومَ عرفةَ، فجعلَ الفتى يلاحظُ النِّساءَ وينظرُ إليهنَّ، فقالَ: يا ابنَ أخي هذا يومٌ من ملكَ فيهِ سمعَهُ وبصرَهُ ولسانَهُ غُفرَ لَهُ)).
          وقال عِكْرِمَة والضَّحَّاك(21) في قوله تعالى: {وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ}[آل عِمْرَان:97]قالوا: من كفر بالله واليوم الآخر.
          وقال الحسن: من كفر بالحجِّ فلم يره واجبًا، وقال سعيد بن جبير: قال عمر بن الخطَّاب: لو أنَّ النَّاس تركوا الحجَّ لقاتلناهم عليه كما نقاتلهم على الصَّلاة والزَّكاة.


[1] في (م): ((كتاب الحج. باب وجوب)).
[2] قوله: ((قال)) ليس في (م).
[3] زاد في (م): ((بن عباس)).
[4] زاد في (م): ((تستفتيه)).
[5] قوله: ((وتنظر إليه)) ليس في (م).
[6] في (م): ((وجعل رسول الله)).
[7] زاد في (م): ((على)).
[8] زاد في (م): ((إلى البيت)).
[9] زاد في (م): ((والثوري)).
[10] في (م): ((وفي)).
[11] قوله: ((أن)) ليس في (م).
[12] في (م): ((والحجة لمالك أن الاستطاعة)).
[13] في (م): ((النبي)).
[14] في (ز) و(ص) حرفان غير واضحان، ولعلها: ((حجة)).
[15] في (م): ((فلا)).
[16] زاد في (م): ((على أي وجه)).
[17] زاد في (م): ((به)).
[18] في (م): ((إنها)).
[19] في (م): ((فوجب)).
[20] في (م): ((على المشي ببدنه)).
[21] زاد في (م): ((ومجاهد)).