شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب من أذن وأقام لكل واحدة منهما

          ░97▒ باب: مَنْ أَذَّنَ وَأَقَامَ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا.
          فيه: عبدُ اللهِ بْنُ مسعودٍ: (أنَّهُ حَجَّ فَأَتى الْمُزْدَلِفَةَ حِينَ الأذَانِ بِالْعَتَمَةِ، أَوْ قَرِيبًا مِنهُ، فَأَمَرَ رَجُلا فَأَذَّنَ وَأَقَامَ، ثُمَّ صَلَّى الْمَغْرِبَ، وَصَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ دَعَا بِعَشَائِهِ فَتَعَشَّى، ثُمَّ أَمَرَ، أُرَى، فَأَذَّنَ وَأَقَامَ، _قَالَ عَمْرٌو: لا أَعْلَمُ الشَّكَّ إِلَّا مِنْ زُهَيْرٍ_ ثُمَّ صَلَّى الْعِشَاءَ رَكْعَتَيْنِ، فَلَمَّا كَانَ حِينَ طَلَعَ الْفَجْرُ، قَالَ: إِنَّ النَّبيَّ صلعم كَانَ لا يُصَلِّي هَذِهِ السَّاعَةَ إِلَّا هَذِهِ الصَّلاةَ في هَذَا الْمَكَانِ مِنْ هَذَا الْيَوْمِ، قَالَ عَبدُ اللهِ: هُمَا صَلاتَانِ تُحَوَّلانِ عَنْ وَقْتِهِمَا: صَلاةُ الْمَغْرِبِ بَعْدَ مَا يَأْتِي النَّاسُ الْمُزْدَلِفَةَ، وَالْفَجْرُ حِينَ يَبْزُغُ الْفَجْرُ، قَالَ: رَأَيْتُ النَّبيَّ صلعم يَفْعَلُهُ). [خ¦1675]
          اختلف العلماء في الأذان والإقامة لهاتين الصَّلاتين، فروى ابن القاسم عن مالك أنَّه يؤذَّن ويقيم لكلِّ صلاة على ظاهر حديث ابن مسعود، وقد روي مثله عن عُمَر بن الخطَّاب وابن مسعود.
          وذهب ابن الماجِشون وأحمد بن حنبل وأبو ثور إلى أنَّه يجمع بينهما بأذان واحد وإقامتين، واختاره الطَّحاويُّ، وذكر عن أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمَّد بأَذَانٍ واحدٍ وإقامةٍ واحدةٍ، خلاف قولهم في الجمع بين الظُّهر والعصر بعرفة.
          وذهبت طائفة إلى أنَّه يصلِّيهما بإقامةٍ إقامة، روي ذلك عن القاسم وسالم، وإليه ذهب الشَّافعيُّ وإسحاق وأحمد في أحد قوليه، وذهب الثَّوريُّ إلى أنَّه يصلِّيهما بإقامة واحدة لا أذان معها، واحتجَّ الطَّحاويُّ بحديث حاتم بن إسماعيل، عن جعفر بن محمَّد، عن أبيه، عن جابر: ((أن الرَّسول صلعم جمع بينهما بأذان واحد وإقامتين)).
          قال الطَّحاويُّ: وأجمعوا أنَّ الأُولَى من الصَّلاتين اللَّتين يجمعان بعرفة يؤذَّن لها ويقام، فالنَّظر على ذلك أن يكون كذلك حكم الأُولى من الصَّلاتين بجمع. وأخذ الطَّحاويُّ بحديث أهل المدينة.
          والحجَّة لأبي حنيفة ما رواه شعبة عن الحكم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عمر: ((أنَّ رسول الله أذَّن للمغرب بجمع فأقام، ثمَّ صلَّى العشاء بالإقامة الأولى)).
          وحجَّة الشَّافعيِّ حديث ابن شهاب، عن سالم، عن أبيه: ((أنَّ النَّبيَّ صلعم جمع بينهما بإقامة إقامة))، رواه اللَّيث وابن أبي ذئب عن الزُّهريِّ، ولم يذكره مالك في حديثه، وذكره البخاريُّ في الباب قبل هذا، [خ¦1673] وهذه الرِّواية أصحُّ عن ابن عمر ممَّا خالفها، واحتجَّ أيضًا بحديث ابن عبَّاس عن أسامة بن زيد: ((أنَّ النَّبيَّ صلعم عدل إلى الشِّعب فتوضَّأ)) وذكر الحديث، وفيه أنَّه أقام لكلِّ واحدة منهما، واحتجَّ الثَّوريُّ بما رواه عن سلمة بن كُهَيل، عن سعيد بن جبير، عن ابن عمر قال: ((جمع النَّبيّ صلعم بين المغرب والعشاء بالمزدلفة بإقامةٍ واحدةٍ))، وكان أحمد بن حنبل يعجب من مالك إذا أخذ بحديث ابن مسعود ولم يروه، وهو من رواية أهل الكوفة، وترك ما روى أهل المدينة في ذلك من غير ما طريق، وكذلك أخذ أهل الكوفة بما رواه أهل المدينة في ذلك وتركوا روايتهم عن ابن مسعود.
          وفي فعل ابن مسعود من الفقه جواز التَّنفُّل بين الصَّلاتين إذا جمعتا، وإنَّما تَعَشَّى بين الصَّلاتين على سبيل السَّعة في ذلك، لا(1) على أن يدخل بين المغرب والعشاء عملا أو شغلا.
          وقد قال أصبغ: إذا صلَّى أهل المسجد المغرب، فوقع مطر شديد وهم يتنفَّلون، فأرادوا أن يعجِّلوا العشاء قبل وقتها، فلا بأس بذلك.
          قال المُهَلَّب: وقوله: ((وهما صلاتان تحوَّلان عن وقتهما)) إنَّما هو تحويل عن الوقت المستحبِّ المعتاد إلى ما قبله من الوقت، لا أنَّ تحويلها قبل دخول وقتِها المحدود في كتاب الله.


[1] قوله: ((لا)) زيادة من المطبوع.