شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب قول الله تعالى: {ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام}

          ░37▒ باب: قَوْلِ اللهِ تعالى: {ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ}[البقرة:196].
          فيه: ابْنُ عَبَّاسٍ: (أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ مُتْعَةِ(1) الْحَجِّ، فَقَالَ: أَهَلَّ الْمُهَاجِرُونَ وَالأنْصَارُ وَأَزْوَاجُ الرَّسُولِ(2) صلعم في حَجَّةِ الْوَدَاعِ وَأَهْلَلْنَا، فَلَمَّا قَدِمْنَا مَكَّةَ قَالَ رَسُولُ اللهِ صلعم: اجْعَلُوا إِهْلالَكُمْ بِالْحَجِّ عُمْرَةً إِلَّا مَنْ قَلَّدَ الْهَدْيَ)، فَطُفْنَا بِالْبَيْتِ وَبِالصَّفَا(3) وَالْمَرْوَةِ، وَأَتَيْنَا النِّسَاءَ، وَلَبِسْنَا الثِّيَابَ، وَقَالَ: مَنْ قَلَّدَ الْهَدْيَ، فَإِنَّهُ لا يَحِلُّ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ، ثُمَّ أَمَرَنَا عَشِيَّةَ التَّرْوِيَةِ أَنْ نُهِلَّ بِالْحَجِّ، فَإِذَا فَرَغْنَا مِنَ الْمَنَاسِكِ جِئْنَا فَطُفْنَا بِالْبَيْتِ وَبِالصَّفَا(4) وَالْمَرْوَةِ، فَقَدْ تَمَّ حَجُّنَا وَعَلَيْنَا الْهَدْيُ كَمَا قَالَ(5) تعالى: {فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ في الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} إلى أَمْصَارِكُمُ، الشَّاةُ تَجْزِي، فَجَمَعُوا نُسُكَيْنِ في عَامٍ بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، فَإِنَّ اللهَ تعالى أَنْزَلَ في كِتَابِهِ وَسُنَّة نَبِيهِ(6) ◙، وَأَبَاحَهُ لِلنَّاسِ غَيْرَ أَهْلِ مَكَّةَ، قَالَ تعالى(7): {ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} وَأَشْهُرُ الْحَجِّ الَّتي ذَكَرَ اللهُ(8): شَوَّالٌ وَذُو الْقَعْدَةِ وَذُو الْحَجَّةِ، فَمَنْ تَمَتَّعَ في هَذِهِ الأشْهُرِ فَعَلَيْهِ دَمٌ أَوْ صَوْمٌ، وَالرَّفَثُ: الْجِمَاعُ، وَالْفُسُوقُ: الْمَعَاصِي، وَالْجِدَالُ: الْمِرَاءُ. [خ¦1572]
          اختلف العلماء: في حاضري المسجد الحرام مَنْ هُمْ؟ فذهب طاوس ومجاهد إلى أنَّهم أهل الحرم، وقالت طائفةٌ: هم أهل مكَّة بعينها، رُوي هذا عن نافع مولى ابن عمر، وعن عبد الرَّحمن الأعرج، وهو قول مالك، قال: هم أهل مكَّة، ذي طوى وشبهها، وأمَّا أهل منى وعرفة والمناهل مثل قُدَيد وعُسْفان ومَرُّ الظَّهران فعليهم الدَّم.
          وذهب أبو حنيفة إلى أنَّهم أهلُ المواقيت فمن دونهم إلى مكَّة، وقال مكحول: من كان منزله دون المواقيت إلى مكَّة فهو من حاضري المسجد الحرام، وأمَّا أهل المواقيت فهم كسائر أهل الآفاق، رُوي هذا عن عطاء، وبه قال الشَّافعيُّ بالعراق، وقال الشَافعيُّ: من كان من الحرم على مسافة لا يُقصر في مثلها الصَّلاة(9) فهو من حاضري المسجد الحرام.
          قال الطَّحاويُّ: ولمَّا اختلفوا في ذلك نظرنا فوجدنا أصحابنا الكوفيِّين يقولون: لكلِّ من كان من حاضري المسجد الحرام دخول مكَّة بغير إحرامٍ، إذ كانوا قد جعلوا المكان الَّذي هم فيه من أهل مكَّة كمكَّة(10)، واحتجُّوا فيه بما روى مالك عن نافع، عن ابن عمر: أنَّه أقبلّ مِنْ مكَّةَ حتَّى إذا كانَ بقُدَيدٍ بَلغَهُ خبرٌ مِنَ المدينةِ فرجَعَ فدَخلَ مكَّةَ حلالًا، فدلَّ هذا على أنَّ أهل قديد كأهل مكَّة، وقد رُوي عن ابن عبَّاسٍ خلاف هذا، روى عنه عطاء أنَّه كان يقول: لا يدخل أحدٌ مكَّة إلَّا محرمًا، وقال ابن عبَّاسٍ: لَا عمْرةَ على المكِّيِّ إلَّا أن يخرج من الحرم فلا يدخله إلَّا حرامًا وإن خرج قريبًا من مكَّة، فهذا ابن عبَّاسٍ قد منع النَّاس جميعًا من دخول مكَّة بغير إحرامٍ، فدلَّ هذا أنَّ مَن كان من غير أهل مكَّة فهو عنده مخالفٌ لحكم أهل مكَّة، ويدلُّ على صحَّة هذا المعنى قوله ◙: ((إِنَّ اللهَ حَرَّمَ مكَّةَ يومَ خلقَ السَّمواتِ والأرضَ، ولم(11) تحلَّ لأحدٍ قبلي، ولم تحلَّ لي إلَّا ساعةً مِنْ نهارٍ)). أولا(12) ترى أنَّ رسول الله صلعم قصد بالحرمة إلى مكَّة دون ما سواها، فدلَّ ذلك أنَّ سائر النَّاس سوى أهلها في حرمة دخولهم إيَّاها سواء، فثبت بذلك قول ابن عبَّاسٍ، وفي ثبوت ذلك ما يجب به أنَّ(13) حاضري المسجد الحرام هم(14) أهل مكَّة خاصَّة، كما قال نافع والأعرج، لا كما قال أبو حنيفة وأصحابه.
          قال إسماعيل بن إسحاق: ومن الحجَّة لمالك أنَّ حاضري المسجد الحرام أهل القرية الَّتي فيها المسجد الحرام خاصَّة، وليس أهل الحرم كذلك لأنَّه لو كان كذلك لما جاز لأهل مكَّة إذا أرادوا سفرًا أن يقصروا الصَّلاة حتَّى يخرجوا عن الحرم كلِّه، فلمَّا جاز لهم قصر الصَّلاة إذا خرجوا عن(15) بيوت مكَّة دلَّ ذلك على أنَّ حاضري المسجد الحرام هم أهل مكَّة دون الحرم، قاله(16) الأبهريُّ.
          قال إسماعيل: وأمَّا قول من قال: من كان أهله دون المواقيت، فإنَّ المواقيت ليس من هذا الباب في شيءٍ لأنَّها لم تجعل للنَّاس لأنَّها حاضرة المسجد، ألا ترى أنَّ بعض المواقيت بينها وبين مكَّة مسيرة ثمان(17) ليالٍ، وبين بعضها وبين مكَّة مسيرة ليلتين، فيكون(18) من كان دون ذي الحليفة إلى مكَّة(19) حاضري المسجد الحرام وبينه وبين مكَّة ثمان ليالٍ، ومن كان منزله من وراء قرن ممَّا يلي نجد ألا يكون من حاضري المسجد الحرام، وإنَّما بينه وبين مكَّة مسيرة ليلتين وبعض أخرى؟! وإنَّما الحاضر للشَّيء من كان معه، فكيف يُجعل من هو أبعد حاضرًا ومن هو أقرب ليس بحاضرٍ؟!
          ودليل آخر: وهو قوله تعالى: {هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ}[الفتح:25]فهذا يدلُّ أنَّه(20) المسجد الحرام نفسه(21)، وإنَّما صدَّ المشركون النَّبيَّ ◙ عن المسجد وعن البيت، فأمَّا الحرم فقد كان(22) غير ممنوعٍ منه(23) لأنَّ الحديبية تلي الحرم، وهذا قاطع لطاوس ومجاهد.
          قال المؤلِّف: وأمَّا(24) قول ابن عبَّاس في التَّمتُّع: فإنَّ الله أنزله في كتابه وسنَّة نبيِّه، وأباحه للنَّاس غير أهل مكَّة، فإنَّ مذهبه أنَّ أهل مكَّة لا متعة لهم، وذلك _والله أعلم_ لأنَّ(25) العمرة لا بدَّ في الإحرام بها من الخروج إلى الحلِّ، ومن كان من أهل مكَّة فهي داره لا يمكنه الخروج منها، وهي ميقاته في الإحرام بالحجِّ، وقد صرَّح بذلك ابن عبَّاسٍ فقال: يا أهل مكَّة، لا متعة لكم، إنَّما يجعل أحدكم بينه وبين أهل(26) مكَّة بطن وادٍ، ويُهِلُّ)).
          وهذا مذهب أبي حنيفة وأصحابه، قالوا: ليس لأهل مكَّة تمتُّعٌ ولا قرانٌ، فإن فعلوا فعليهم الدَّم، وأوجب ابن الماجِشون الدَّم للقران ولم يوجبه للتَّمتُّع، واعتلَّ ابن الماجِشون بأنَّ القارنَ قارنٌ من حيثما حجَّ، والمتمتِّع إنَّما هو المعتمر من بلده في أشهر الحجِّ المقيم بمكَّة حتَّى يحجَّ، ومن كان من أهلها فهي داره لا يمكنه الخروج منها إلى غير داره، وقد وضع الله ذلك عنه، ولم يذكر القارن.
          قال ابن القصَّار: وهذا خطأ لأنَّه إذا جاز التَّمتُّع لأهل مكَّة فقد جاز لهم القِران لأنَّه لا فرق بينهما، واحتجَّ أبو حنيفة بأنَّ الاستثناء عنده في الآية راجع إلى الجملة لا إلى الدَّم، قال: ولو رجع إلى الدَّم لقال: ذلك على من لم يكن أهله، وقول القائل: إنَّ(27) لفلان كذا يفيد نفي الإيجاب عليه، ولهذا لا يُقال: له الصَّلاة والصَّوم، وإنَّما يُقال: عليه الصَّلاة والصَّوم.
          قال ابن القصَّار محتجًّا لمالك: قوله تعالى: {فَمَن تَمَتَّعَ} لفظٌ يقتضي إباحة التَّمتُّع، ثمَّ علَّق عليه حكمًا وهو الهدي، ثمَّ استثنى في آخرها(28) أهل مكَّة، والاستثناء(29) إذا وقع بعد فعل قد علَّق عليه حكمٌ انصَرف إلى الحكم المعلَّق على الفعل لا إلى الفعل نفسه، فأهل مكَّة وغيرهم في إباحة التَّمتُّع الَّذي هو الفعل سواء، والفرق بينهم في الاستثناء يعود إلى الدَّم لأنَّه الحكم المعلَّق على التَّمتُّع(30)، وهذا بمنزلة قوله ◙: ((مَنْ دَخلَ دارَ أبي سفيانَ(31) / فهوَ آمنٌ، ومَنْ دَخلَ منزلَهُ فهوَ آمنٌ))، فلو وصله بقوله: ذلك لمن لم يكن من أهل القَينَتين أو لغير ابن خَطَل لم يكن ذلك الاستثناء عائدًا إلَّا إلى الأمن(32)، لا إلى الدُّخول، ولا يكون سائر النَّاس ممنوعين من دخول منازلهم ومنزل أبي سفيان، بل إن دخلوا فلهم الأمان كلُّهم إلَّا ابن خطل والقَينتين ومن استُثني معهم.
          وقوله: {فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إلى الْحَجِّ} لو تجرَّد من تمامه لم يعد كقوله: زيد(33) لا يفيد بانفراده حتَّى يخبر عنه بقائمٍ أو قاعدٍ أو غيره، فكذلك قوله: {فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إلى الْحَجِّ} لا يفيد شيئًا حتَّى يخبر عن حكمه، وقوله: {فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} هو الحكم الَّذي به تتمُّ الفائدة.
          والفوائد إنَّما هي في الأحكام المعلَّقة على أفعال العباد لا على أسمائهم، ومثله: {فَسَجَدَ الْمَلآئِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ. إِلاَّ إِبْلِيسَ}[الحجر:30-31]معناه فإنَّه لم يسجد فلم تكن الفائدة في الاستثناء راجعةً إلَّا إلى نفي السُّجود الَّذي به يتمُّ(34) الكلام.
          قال غيره: فإنَّما(35) أوجب الله الدَّم على المتمتِّع غير المكِّيِّ لأنَّه كان عليه أن يأتي مُحْرمًا بالحجِّ من داره في سفر، وبالعمرة في سفرٍ ثان، فلمَّا تمتَّع بإسقاط أحد السَّفرين(36) أوجب الله تعالى عليه الهدي، فكذلك القارن هو في معنى المتمتِّع لإسقاط(37) أحد السفرين، ودلَّت الآية على أنَّ أهل مكَّة بخلاف هذا المعنى لأنَّ إهلالهم بالحجِّ خاصَّةً من مكَّة، ولا خروج لهم إلى الحلِّ للإهلال إلَّا بالعمرة خاصَّةً، فإذا فعلوا ذلك لم(38) يُسْقِطُوا سفرًا لزمهم فلا دم عليهم، ففارقوا سائر النَّاس(39) في هذا، وقد تقدَّم اختلافهم فيمن أحرم من مكَّة بالعمرة ولم يخرج إلى الحلِّ للإحرام في باب مهلِّ أهل مكَّة للحجِّ والعمرة. [خ¦1524]


[1] في (م): ((المتعة)).
[2] في (م): ((النبي)).
[3] في (م): ((والصفا)).
[4] في (م): ((والصفا)).
[5] زاد في (م): ((الله)).
[6] في (م): ((أنزله ف ي كتابه وسنَّهُ نبيه)).
[7] زاد في (م): ((الله تعالى)).
[8] في (م): ((ذكرها الله تعالى)).
[9] في (م): ((لا يقصر فيها الصلاة)).
[10] في (م): ((الذي هم من أهله كمكة)).
[11] في (م): ((لم)).
[12] في (م): ((أفلا)).
[13] في (ز): ((ذلك ما يجزيه))، وفي (م): ((فثبت بذلك قول ابن عباس في أن)) والمثبت من المطبوع.
[14] قوله: ((هم)) ليس في (م).
[15] في (م): ((من)).
[16] في (م): ((وقاله)).
[17] في (م): ((تسع)).
[18] في (م): ((أفيكون)).
[19] زاد في (م): ((من)).
[20] في (م): ((أن)).
[21] في (م): ((بعينه)).
[22] زاد في (م): ((النبي ◙)).
[23] قوله: ((منه)) ليس في (م).
[24] في (م): ((فأما)).
[25] في (م): ((أن)).
[26] قوله: ((أهل)) ليس في (م).
[27] قوله: ((إن)) ليس في (م).
[28] في (م): ((آخره)).
[29] في (م): ((بالاستثناء)).
[30] في (م): ((المتمتع)).
[31] قوله: ((باب: مَنْ لَبَّى بِالْحَجِّ وَسَمَّاهُ.......))وهذا بمنزلة قوله ◙: ((مَنْ دَخلَ دارَ أبي سفيانَ)) الورقة ليست في المخطوط (ص).
[32] في (ز) و(ص): ((الأمر)) والمثبت من (م).
[33] قوله: ((لو تجرَّد من تمامه لم يعد كقوله: زيد)) ليس في (ص).
[34] في (م): ((يتم به)).
[35] في (م): ((وإنما)).
[36] في (م): ((السفرتين)).
[37] في (م): ((لإسقاطه)).
[38] في (م): ((فلم)).
[39] في (م): ((سائر أهل الآفاق)).