شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب: متى يدفع من جمع؟

          ░100▒ بَاب: مَتَى يُدْفَعُ مِنْ جَمْعٍ.
          فيه: عَمْرُو بْنُ مَيْمُونٍ يَقُولُ: (شَهِدْتُ عُمَرَ صَلَّى بِجَمْعٍ الصُّبْحَ، ثُمَّ وَقَفَ، فَقَالَ: إِنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا لا يُفِيضُونَ مِنْ جَمْعٍ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ، وَيَقُولُونَ: أَشْرِقْ ثَبِيرُ، وَأَنَّ الرَّسولَ صلعم خَالَفَهُمْ، ثُمَّ أَفَاضَ قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ). [خ¦1684]
          قال الطَّبريُّ: فيه من الفقه بيان وقت الوقوف الذي أوجبه الله تعالى على حجَّاج بيته بالمشعر الحرام، لقوله تعالى: {فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ}[البقرة:198]فمن وقف بالمشعر الحرام ذاكرًا له في الوقت الذي وقف به رسول الله أو في بعضه، فقد أدركه وأدَّى ما ألزم الله من ذكره به، وذلك حين صلاة الفجر بعد طلوع الفجر الثَّاني إلى أن يدفع الإمام منه قبل طلوع الشَّمس يوم النَّحر، ومن لم يدرك ذلك حتَّى تطلع الشَّمس فقد فاته الوقوف فيه بإجماع.
          وقال ابن المنذر: ثبت أنَّ النَّبيَّ صلعم أفاض من جمع قبل طلوع الشَّمس حين أسفر جدًّا، وأخذ بهذا ابن مسعود وابن عمر، وقال بذلك عامَّة العلماء أصحاب الرَّأي والشَّافعيُّ، غير مالك فإنَّه كان يرى أن يدفع قبل طلوع الشَّمس وقبل الإسفار.
          قال المُهَلَّب: فإنَّما عجَّل النَّبيُّ صلعم الصَّلاة، وزاحم بها أوَّل وقتها ليدفع قبل إشراق الشَّمس على جبل ثَبِير ليخالف أمر المشركين، فكلَّما بَعُدَ دفعُه من طلوع الشَّمس كان أفضل، فلهذا _والله أعلم_ اختار هذا مالك.
          قال الطَّبريُّ: وقوله: (لَا يُفِيضُونَ) يعني: لا يرجعون من المشعر الحرام إلى حيث بدأ المصير إليه من منًى حتَّى تطلع الشَّمس، وكذلك تقول العرب لكلِّ راجع من موضع آخر إلى الموضع الذي بدأ منه: أفاض فلان من(1) موضع كذا.
          وكان الأصمعيُّ يقول: الإفاضة: الدَّفعة، وكلُّ دفعة إفاضة، ومنه قيل: أفاض القوم في الحديث، إذا دفعوا فيه. وأفاض دمعه يفيضه، فأمَّا إذا سالت دموع العين، فإنَّما يقال: فاضت عينه بالدُّموع.
          قال ابن قتيبة: وقولهم: أَشْرق ثَبِير، هو من شروق الشَّمس، وشروقها: طلوعها، يقال: شرقت الشَّمس شروقًا، إذا هي طلعت، وأشرقت: إذا أضاءت، وإنَّما يريدون: اُدْخُلْ أيَّها الجبل في الشُّروق كما يقال: أشمَل القوم: إذا دخلوا في ريح الشَّمال، وأجنَبوا: إذا دخلوا في الجنوب، وأراحوا: إذا دخلوا في الرِّيح، وأربعوا: إذا دخلوا في الرَّبيع، فإذا أردت أنَّ شيئًا من هذا أصابهم، قلت: شمل القوم وجنبوا وريحوا وربعوا، وغيثوا إذا أصابهم الغيث.
          وقوله: (كَيْمَا نغِيرُ) يريد كيما ندفع للنَّحر، قال الطَّبريُّ: وهو من قولهم: أغار الفرس إغارة الثَّعلب، وذلك إذا دفع وأسرع في عدوه.


[1] قوله: ((موضع آخر إلى الموضع الذي بدا منه: أفاض فلان من)) زيادة من المطبوع.