شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب: كيف تهل الحائض والنفساء

          ░31▒ باب: كَيْفَ تُهِلُّ الْحَائِضُ وَالنُّفَسَاءُ؟
          أَهَلَّ: تَكَلَّمَ، وَاسْتَهْلَلْنَا وَأَهْلَلْنَا الْهِلالَ: كُلُّهُ مِنَ الظُّهُورِ، وَاسْتَهَلَّ الْمَطَرُ: خَرَجَ مِنَ السَّحَابِ، {وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ}[المائدة:3]وَهُوَ مِنِ اسْتِهْلالِ الصَّبِيِّ.(1)
          فيه: عَائِشَةُ: خَرَجْنَا مَعَ النَّبيِّ صلعم في حَجَّةِ الْوَدَاعِ، فَأَهْلَلْنَا بِعُمْرَةٍ، ثُمَّ قَالَ النَّبيُّ صلعم: مَنْ كَانَ مَعَهُ هَدْيٌ فَلْيُهِلَّ بِالْحَجِّ مَعَ الْعُمْرَةِ، ثُمَّ لا يَحِلَّ حَتَّى يَحِلَّ مِنْهُمَا جَمِيعًا، فَقَدِمْتُ مَكَّةَ وَأَنَا حَائِضٌ، وَلَمْ أَطُفْ بِالْبَيْتِ وَلا بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَة، فَشَكَوْتُ ذَلِكَ إلى النَّبيِّ صلعم فَقَالَ: (انْقُضِي رَأْسَكِ وَامْتَشِطِي وَأَهِلِّي بِالْحَجِّ، وَدَعِي الْعُمْرَة، فَفَعَلْتُ فَلَمَّا قَضَيْنَا الْحَجَّ، أَرْسَلَنِي رُسُولُ الله(2) مَعَ عبد الرحْمَنِ بْنِ أبي بَكْرٍ(3)، فَاعْتَمَرْتُ، فَقَالَ: هَذِهِ مَكَانَ عُمْرَتِكِ) الحديث. [خ¦1556]
          قال المُهَلَّب: قولها: (فَأَهلَلنَا بُعُمرَةٍ) يعارضه رواية عَمْرة عن عائشة أنَّها قالت: ((خرجنا لخمسٍ بقيَن مِنْ ذي القَعدةِ، ولا نرى إلَّا أنَّهُ الحجُّ)).
          وقال أبو نعيم في حديثه ((مهلِّين بالحجِّ))، قالت عَمرة في حديثها(4): فلمَّا دنونا من مكَّة قال النَّبيُّ صلعم لأصحابه: ((مَنْ لَم يكن معهُ هديٌ فأحبَّ أن يجعلَها عُمْرةً فليفعل، ومَنْ كانَ معهُ هديٌ فلا)) والتَّوفيق بين الحديثين أن يكون معنى قولها: (فأهلَلنا بعمرةٍ) تريد حين دنونا من مكَّة حين أمر النَّبيُّ صلعم من لم يسق الهدي بفسخ الحجِّ في العمرة، فأهلَّوا بها، وبيَّنتْ(5) عَمْرة عن عائشة ابتداء القصَّة من أوَّلها، وعروة(6) إنَّما ذكر ما آل إليه أمرهم حين دنوا من مكَّة وفسخوا الحجَّ في العمرة، إلَّا من كان ساق الهدي من المفردين فإنَّه مضى على إحرامه من أجل هديه، ولم يفسخه في عمْرة لقول الله: {لاَ تُحِلُّوا شعائر اللهِ..}(7) {وَلاَ الْهَدْيَ}[المائدة:2].
          وقولها: (فَقَدِمتُ مكَّةَ وأنا حَائِضٌ، وَلَم أَطُفْ بالبَيتِ وَلَا بَينَ الصَّفَا وَالمروَةَ) فلا خلاف بين العلماء أنَّ الحائض لا تطوف بالبيت، ولا تسعى بين الصَّفا والمروة لأنَّ السَّعي بينهما موصول بالطَّواف، والطَّواف موصول بالصَّلاة، ولا تجوز صلاةٌ بغير طهارةٍ.
          وقوله ◙: (انْقُضِي رَأْسَكِ وَامْتَشِطِي وَأَهِلِّي بِالْحَجِّ، وَدَعِي الْعُمْرَة) احتجَّ به الكوفيُّون فقالوا: إنَّ المعتمرة إذا حاضتْ قبل الطَّواف وضاق عليها وقت الحجِّ رفضت عمرتها وألقتها واستهلَّت(8) بالحجِّ، وعليها لرفض عمرتها دم، ثمَّ تقضي عمْرة بعد(9)، قالوا: وقوله: (انْقُضِي رَأْسَكِ وَامْتَشِطِي) دليل على رفض العمرة لأنَّ القارنة لا تمتشط ولا تنفض رأسها، فجاوبهم مخالفوهم بأنَّ ابن وهب روى عن مالك(10) / أنَّه قال: حديث عروة عن عائشة ليس عليه العمل عندنا قديمًا ولا حديثًا وأظنُّه وهمًا. يعني ليس(11) عليه العمل في رفض العمرة(12) لأنَّ الله تعالى أمر بإتمام الحجِّ والعمرة لمن دخل فيهما، وقال: {وَلاَ(13) تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ}[محمد:33]ورفضها قبل إتمامها هو إبطالها.
          قال ابن القصَّار: وكذلك لو احرمت بالحجِّ ثمَّ حاضتْ قبل الطَّواف لم ترفضه، فكذلك العمرة، بعلَّة أنَّه نسكٌ يجب المضيُّ في فاسده فلا يجوز تركه قبل إتمامه مع القدرة عليه.
          والَّذي عليه العمل عند مالك والأوزاعيِّ والشَّافعيِّ وأبي ثورٍ في المعتمرة تحيض قبل أن تطوف بالبيت وتخشى فوات عرفة وهي حائض، أنَّها تهلُّ بالحجِّ وتكون كمن قرن بين الحجِّ والعمرة ابتداءً، وعليها دم(14) القران، ولا يعرفون رفض العمرة ولا رفض الحجِّ لأحدٍ دخل فيهما أو في أحدهما، قالوا: وكذلك المعتمر يخاف فوات(15) عرفة قبل أن يطوف، لا يكون إهلاله رفضًا للعمرة بل يكون قارنًا لإدخاله(16) الحجَّ على العمرة.
          ودفعوا حديث عروة عن عائشة بضروب من الاعتلال منها: أنَّ القاسم والأسود وعمرة رووا عن عائشة(17) ما دلَّ أنَّها كانت محرمةٌ بحجٍّ، فكيف يجوز أن يُقال لها: دعي العمرة، وقال إسماعيل بن إسحاق: رواية عروة غلطٌ لأنَّ الثَّلاثة خالفوه، وقال(18) غيره: أقلُّ الأحوال في ذلك سقوط الاحتجاج بما صحَّ فيه التَّعارض والرُّجوع إلى قوله: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ}[البقرة:196].
          وأجمعوا(19) في غير الخائف لفوت عرفة أنَّه لا يحلُّ له رفض العمرة، فكذلك من خاف فوات(20) عرفة لأنَّه يمكنه إدخال الحجِّ على العمرة ويكون قارنًا، فلا وجه لرفض العمرة في شيءٍ من النَّظر.
          قال أبو عبد الله بن أبي صُفرة: ولو(21) ثبت قوله ◙: (دَعِي العُمرةَ) لكان له تأويلٌ سائغٌ، فيكون معنى قوله: (أَهلِّي بالحَجِّ) أنه(22) الَّذي أنت فيه، أي استديمي ما أنت عليه ودعي العمرة الَّتي أردت أن يُفسخ(23) حجُّك فيها لأنَّها إنَّما طهرت بمنًى، وقد رهقها الوقوف بعرفة، وهذا أصلٌ في المرهق(24) أنَّ له تأخير طواف الورود، وممَّا يوهن رواية عروة ما رواه حمَّاد بن زيد عن هشام(25) بن عروة عن أبيه قال: حدَّثني غير واحدٍ أنَّ النَّبيَّ صلعم قال لها: (دَعِي عُمرَتَكِ) فدلَّ أنَّ عروة لم يسمعه من عائشة، ولو ثبت قوله: (انْقُضِي رَأْسَكِ وَامْتَشِطِي) لما نافى ذلك إحرامها ولجبرته بالفدية كما أمر ◙ كعب بن عجرة بالحلق والفدية لمَّا بلغ به أذى القمل، فيكون أمره لها بنقضها رأسها وامتشاطها لضرورةٍ كانت بها مع الفدية، هذا سائغٌ ومحتملٌ فلا تعارض به الأصول، وقد يمكن أن يكون أمرها بغسل رأسها وإن كانت حائضًا لا يجب عليها غسله ولا نقضه لغسل الإهلال(26) بالحجِّ لأنَّ من سنَّة الحائض والنُّفساء أن يغتسلا عند الميقات والإهلال بالحجِّ، كما أمر(27) ◙ أسماء بنت عميس حين ولدت محمَّد بن أبي بكر بالبيداء بالاغتسال والإهلال، ولو أمر ◙ عائشة بنقض رأسها والاغتسال لوجوب الغسل عليها، لكانت قد طهرت فتطوف للعمرة الَّتي قد(28) تركت. وقوله ◙ لها: (غَيرَ ألَّا تَطُوفِي بِالبَيتِ) يدلُّ أنَّها لم تنقض رأسها إلَّا لمرض ٍكان بها أو لإهلالٍ(29) كما ذكرنا.


[1] قوله: ((أَهَلَّ: تَكَلَّمَ..... اسْتِهْلالِ الصَّبِيِّ)) ليس في (م).
[2] قوله: ((رسول الله)) ليس في (م).
[3] قوله: ((ابن أبي بكر)) ليس في (م).
[4] قوله: ((في حديثها)) زيادة من (م).
[5] قوله: ((فبينت)) غير واضح في (ز) وهو مثبت من (م).
[6] زاد في (م): ((إنما ذكر عن عائشة)).
[7] زاد في المطبوع: ((ولا الشهر الحرام))، والنسخ كالمثبت.
[8] في (م): ((وأهلت)).
[9] زاد في (م): ((ذلك)).
[10] قوله: ((وَالتَّكْبِيرِ قَبْلَ الإهْلالِ عِنْدَ الرُّكُوبِ على الدَّابَّةِ........فجاوبهم مخالفوهم بأنَّ ابن وهب روى عن مالك)) الورقة ليست في المخطوط (ص).
[11] في (م): ((لأن)).
[12] في (ز): ((الدعوة)) والمثبت من (م) و(ص).
[13] في (م): ((لا)).
[14] في (م): ((هدي)).
[15] في (م): ((فوت)).
[16] في (م): ((بإدخاله)).
[17] قوله: ((بضروب من الاعتلال.... عن عائشة)) زيادة من (م)، وليس في (ص).
[18] في (م): ((قال)).
[19] في (م): ((وقد أجمعوا)).
[20] في (م): ((فوت)).
[21] في (م): ((لو)).
[22] في (م): ((أي))، قوله: ((أنه)) ليس في (ص).
[23] في (م): ((تفسخي)).
[24] في (ز) و(ص): ((المراهق)) والمثبت من (م).
[25] في (ز) و(ص): ((حماد عن زيد بن هشام)) والمثبت من (م).
[26] في (م): ((لتغتسل للإهلال)).
[27] زاد في (م): ((النبي)).
[28] قوله: ((قد)) ليس في (م).
[29] في (م): ((للإهلال)).