شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب سقاية الحاج

          ░75▒ باب: سِقَايَةِ الْحَاجِّ. /
          فيه: ابْن عُمَرَ: (اسْتَأْذَنَ الْعَبَّاسُ رَسُولَ اللهِ صلعم أَنْ يَبِيتَ بِمَكَّةَ لَيَالِيَ مِنًى مِنْ أَجْلِ سِقَايَتِهِ، فَأَذِنَ لَهُ). [خ¦1634]
          وفيه: ابْنُ عَبَّاسٍ: (أَنَّ النَّبيَّ صلعم جَاءَ إلى السِّقَايَةِ فَاسْتَسْقَى، فَقَالَ الْعَبَّاسُ: يَا فَضْلُ، اذْهَبْ إلى أُمِّكَ فَاْئتِ رَسُولَ اللهِ صلعم بِشَرَابٍ مِنْ عِنْدِهَا، فَقَالَ: اسْقِنِي، قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّهُمْ يَجْعَلُونَ أَيْدِيَهُمْ فِيهِ، قَالَ: اسْقِنِي، فَشَرِبَ مِنْهُ، ثُمَّ أَتَى زَمْزَمَ، وَهُمْ يَسْقُونَ وَيَعْمَلُونَ فِيهَا، قَالَ(1): اعْمَلُوا فَإِنَّكُمْ على عَمَلٍ صَالِحٍ، ثُمَّ قَالَ: لَوْلا أَنْ تُغْلَبُوا لَنَزَلْتُ حَتَّى أَضَعَ الْحَبْلَ على هَذِهِ، يعني(2) عَاتِقَهُ). [خ¦1635]
          قال جماعة من أهل السِّير: كانت السِّقاية للعبَّاس مكرمة، يسقي النَّاس نبيذ التَّمر، فأقرَّها النَّبيُّ ◙ في الإسلام، ورُوي عن طاوس(3) قال: شُرْبُ نبيذ السِّقاية من تمام الحجِّ، وقال عطاء: لقد أدركت هذا الشَّراب، وإنَّ الرَّجل ليشربه فتلتزق شفتاه من حلاوته، فلمَّا ذهب(4) الخزنة وَوَلِيَهُ العبيد تهاونوا بالشَّراب واستخفُّوا به، وروى ابن جُريج عن نافع، أنَّ ابن عمر لم يكن يشرب من النَّبيذ في الحجِّ.
          وروى الطَّبريُّ حديث ابن عبَّاس في قصَّة السِّقاية أتمَّ ممَّا ذكره البخاريُّ فقال: حدَّثنا أبو كريب، حدَّثنا أبو بكر بن عيَّاش، عن يزيد بن أبي زياد، عن عِكْرِمَة، عن ابن عبَّاس قال: لمَّا طاف رسول الله صلعم أتى العبَّاس وهو في السِّقاية فقال: ((اسقُونِي))، قال العبَّاس: إنَّ هذا قد مُرِثَ، أفلا نسقيك ممَّا في بيوتنا؟ قال: ((لَا، ولكِنِ اسقُونِي ممَّا شَرِبَ(5) النَّاسُ))، فأُتي به فذاقه فقطب، ثمَّ دعا بماءٍ فكسره، ثمَّ قال: ((إذَا اشتدَّ نبيذُكُم فاكسرُوهُ بالماءِ)). فاستدلَّ أهل الكوفة بهذا الخبر على جواز شرب النَّبيذ المسكر، قالوا: وقد رُوي عن عمر وعليٍّ مثل ذلك.
          قال الطَّبريُّ: فيُقال لهم: إنَّ تقطيبه منه لم يكن لأجل(6) أنَّه كان مسكرًا، ولا أنَّ قوله: ((إذا اشتدَّ نبيذُكُم فاكسروا(7) بالماءِ)) ليس(8) معناه: إذا اشتدَّ فصار يسكر شربُ كثيرِه، لأنَّ ذلك لو كان معناه لكان(9) ذلك إباحة منه ◙ شرب الخمر إذا صُبَّ عليه(10) الماء لأنَّ الخمر لا تصير(11) حلالًا بصبِّ الماء عليها، بل تفسد الماء الَّذي يخالطها ويزول عن حدِّ الطَّهارة.
          فدلَّ أنَّ تقطيبه منه ◙ إنَّما كان من حموضته لا من إسكاره، وأنَّ قوله: ((إذا رابَكُم منهُ شيءٌ)) يعني إذا خفتم تغييره إمَّا إلى حموضة، وإمَّا إلى إسكار، فاكسروه قبل تغييره إلى ذلك كي لا يفسد عليكم، وهذا من أدلِّ الدَّليل على تحريم شرب ما أسكر كثيره لأنَّه أمر(12) بكسره بالماء إذا صار إلى حدٍّ يريب شاربه، فلو(13) حلَّ شربه بعدما يصير مسكرًا لم يأمر بعلاجه بالماء قبل مصيره مسكرًا، بل كان يقول ◙: إذا رابكم منه شيء فانتفعوا به واشربوه، ولا تكسروه.
          وإنَّما أمر بكسره لأنَّه كان قد بدت(14) فيه الاستحالة إلى الخليَّة(15) بما(16) حدث فيه من الفساد والحموضة، وذلك موجود في الأشربة الَّتي(17) تنتقل إلى الحموضة قبل دخول الحال الَّتي يصير(18) بها خمرًا، فكسره بالماء ليهون عليه شربه، ومثل هذا المعنى ما رُوي عن عمر وعليٍّ في ذلك، حدَّثنا الرَّبيع بن سليمان، حدَّثنا ابن وهب عن أسامة بن زيد أنَّه سمع نافعًا(19) يقول: إنَّ عمر قال ليَرْفَأ: اذهب إلى إخواننا الثَّقفيِّين فالتمسوا(20) لنا عندهم شرابًا، فأتاهم فقالوا: ما عندنا إلَّا هذه الإداوة وقد تغيَّرت، فدعا بها عمر فذاقها، فقبض وجهه، ثمَّ دعا بالماء فصبَّ عليه فشرب. قال نافع: والله ما قبض وجهه إلَّا أنَّها تخلَّلت.
          قال ابن وهب: وحدَّثنا عَمْرو بن الحارث أنَّ سلام بن حفص أخبره، أنَّ زيد بن أسلم، أخبره أنَّ أصحاب النَّبيِّ صلعم كانوا إذا حمض عليهم النَّبيذ كسروه بالماء. وروى إسماعيل بن أبي خالد عن قيس قال: حدَّثنا عُتْبَةُ بن فَرْقَد قال: دعا عمر بعُسٍّ من نبيذ قد كاد يكون خلًّا، فقال لي: اشرب، فأخذته فجعلت لا أستطيع شربه(21)، فأخذه من يدي فشرب حتَّى قضى حاجته.
          قال المُهَلَّب: وإنَّما أذن النَّبيُّ صلعم للعبَّاس في المبيت عن منى، ولم يوجب عليه الهدي من أجل السِّقاية لأنَّها عملٌ من أعمال الحجِّ، ألا ترى قوله ◙ / إذ ورد زمزم وهم يسقون: (اِعمَلُوا فإنَّكُم عَلَى عَمَلٍ صَالحٍ)وقوله ◙: (لَولَا أنْ تُغلَبوا لنَزَلتُ) يعني: لنزلت لاستقاء(22) الماء، فهذه ولاية من النَّبيِّ ◙ للعبَّاس وآله السِّقاية(23)، وإنَّما خشي أن تتَّخذها الملوك سنَّة يغلبون عليها من وليها من ذرِّيَّة العبَّاس.


[1] في (م): ((فقال)).
[2] زاد في (م): ((على)).
[3] زاد في (م): ((أنه)).
[4] في (م): ((ذهبت)).
[5] في (م) صورتها: ((يشرب)).
[6] في (م): ((من أجل)).
[7] في (م): ((إذا اشتد عليكم فاكسروه))، وفي (ص): ((فاكسروه)).
[8] في (م): ((أن)).
[9] في (م): ((كان)).
[10] في (م): ((عليها)).
[11] في (ز) و(ص): ((يصير)) والمثبت من (م).
[12] العبارة في (م): ((لأن أمره)).
[13] في (م): ((ولو)).
[14] في (م): ((لأنه قد كان بدأت)).
[15] في (ز) و(ص): ((الحلولة))، والمثبت من (م).
[16] في (م): ((مما)).
[17] قوله: ((التي)) ليس في (م).
[18] في (م): ((تصير)).
[19] في (ص): ((نافعٌ)).
[20] في (م): ((فالتمس)).
[21] زاد في (م): ((قال)).
[22] في (م): ((لأستقي)).
[23] في (م): ((للسقاية)).