شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب النحر في منحر النبي بمنى

          ░116▒ باب: النَّحْرِ في مَنْحَرِ النَّبيِّ صلعم بِمِنًى
          فيه: ابْنُ عُمَرَ: (أنَّهُ كَانَ يَنْحَرُ فِي مَنْحَرِ رَسُولِ اللهِ، وَكَانَ يَبْعَثُ بِهَدْيِهِ مِنْ جَمْعٍ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ حَتَّى يُدْخَلَ بِهِ مَنْحَرُ رسول الله صلعم مَعَ حُجَّاجٍ فِيهِمُ الْحُرُّ وَالْمَمْلُوكُ). [خ¦1710]
          المنحر في الحجِّ بمنى إجماع من العلماء، فأمَّا العمرة فلا طريق لنا فيها، فمن أراد أن ينحر في عمرته، أو ساق هديا تطوَّع به نحره بمكَّة حيث شاء، وهذا إجماع أيضًا، فمن فعل هذا فقد أصاب السُّنَّة، وبهذا قال مالك. وقال أبو حنيفة والشَّافعيُّ: إن نحر في غير منى ومكَّة من الحرم أجزأه، قالوا: وإنَّما أريد بذلك مساكين الحرم ومكَّة.
          وقد أجمعوا أنَّه إن نحر في غير الحرم ولم يكن محصرًا بعدوٍّ أنَّه لا يجزئه، قال ابن القصَّار: والحجَّة لمالك ما ذكره في «موطَّئه»: أنَّه بلغه أنَّ النَّبيَّ صلعم قال في حجَّه بمنى: ((هذا المنحر، ومنى كلُّها منحر)).
          وقال في العمرة ((هذا المنحر يعني المروة وكلُّ فجاج مكَّة منحر))، فدلَّ دليل الخطاب أنَّ غيرهما ليس بمنحر؛ لأنَّه كان يكفي أن يذكر أحدهما لينبِّه به على سائر الحرم، فلمَّا خصَّهما جميعًا علم أنَّ منى خصَّت للحجَّاج؛ لأنَّهم يقيمون بها، فجعل نحرهم بها، وجعل مكَّة منحرًا للمعتمرين إذا فرغوا من سعيهم عند المروة.
          فإن قيل: فقد نحر النَّبيُّ صلعم هديه بالحديبية وليست بمكَّة ولا منى ولكنَّها من الحرم، قيل: هذا الهدي لم يكن بلغ محلَّه كما قال الله، وإنَّما جاز له أن يذبحه في غير محلِّه، كما جاز له أن يخرج من إحرامه في غير محلِّه، ولمَّا قال الله في الهدي: {مَعْكُوفًا أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ}[الفتح:25]علمنا أنَّ محلَّه مكَّة لقوله تعالى: {هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ}[المائدة:95].
          وصَدُّ النَّبيِّ صلعم لم يكن عن الحرم، وإنَّما كان عن البيت؛ لأنَّ الحديبية بعضها حرم وبعضها حلٌّ، وترجَّح قياسًا أنَّ مكَّة مخصوصة بالبيت، والطَّواف بالبيت دون سائر الحرم، ومنى مخصوصة بالتَّحلُّل فيها بالرَّمي والمقام بها لبقيَّة أعمال الحجِّ، وليس كذلك سائر الحرم، فخصَّ هذان الموضعان بالنَّحر فيهما لهذا التَّخصيص فيهما، وكذلك فعل الرَّسول صلعم وأصحابه بعده.