شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب السير إذا دفع من عرفة

          ░92▒ باب: السَّيْرِ إِذَا دَفَعَ مِنْ عَرَفَةَ.
          فيه: أسامةُ: (أنَّه سُئِلَ كَيْفَ كَانَ رَسُولُ اللهِ يَسِيرُ في حَجَّةِ الْوَدَاعِ حِينَ دَفَعَ؟ قَالَ: كَانَ يَسِيرُ الْعَنَقَ، فَإِذَا وَجَدَ فَجْوَةً نَصَّ، قَالَ هِشَامٌ: وَالنَّصُّ فَوْقَ الْعَنَقِ). [خ¦1666]
          قال المؤلِّف: تعجيل الدَّفع من عرفة _والله أعلم_ إنَّما هو لضيق الوقت؛ لأنَّهم إنَّما يدفعون من عرفة إلى المزدلفة عند سقوط الشَّمس، وبين عرفة والمزدلفة نحو ثلاثة أميال، وعليهم أن يجمعوا المغرب والعشاء بالمزدلفة، وتلك سنَّتها، فتعجَّلوا في السَّير لاستعجال الصَّلاة.
          قال الطَّبريُّ: وبهذا قال العلماء في صفة سيره ◙ من عرفة إلى المزدلفة، ومن المزدلفة إلى منًى كان يسير العَنَق، وبذلك عمل السَّلف، قال الأسود: شهدت مع عمر الإفاضتين جميعًا لا يزيد على العَنَق، لم يُوضِعْ في واحدة منهما، وقال ابن عمر: سيره العَنَق، وعن ابن عبَّاس مثله.
          وقال آخرون: الإفاضة من عرفاتٍ وجمعٍ الإِيضَاع دون العَنَق، وروى شعبة عن إسماعيل بن رجاء قال: سمعت مَعرُورًا قال: رأيت عُمَر بن الخطَّاب رجلًا أصلع على بعير يقول: أيَّها النَّاس، أَوْضِعُوا فإنَّا وجدنا الإفاضة الإيضاع، وروى ابن عيينة عن ابن المنكدر عن سعيد بن عبد الرَّحمن بن يَربُوع، عن جبير بن الحويرث، أنَّ أبا بكر الصِّدِّيق / وقف على قُزَحَ وقال: أيُّها النَّاس، أصبحوا أصبحوا، فكأنِّي أنظر إلى فخذه قد انكشف ممَّا يخرش بعيره بمحجنه.
          قال الطَّبريُّ: والصَّواب في صفة السَّير في الإفاضتين جميعا ما صحَّت به الآثار أنَّه ◙ كان يسير العَنَق إلَّا في وادي مُحَسِّر، فإنَّه يوضع فيه لصحَّة الخبر عن النَّبيِّ صلعم بذلك، ولو أَوْضع أحد في الموضع الذي ينبغي أن يعنق فيه، أو أعنق في الموضع الذي ينبغي أن يوضع فيه لم يلزمه شيء؛ لإجماع الجميع على ذلك، غير أنَّه يكون مخطئًا سبيل الصَّواب وأدب رسول الله.
          والعَنَق: سير فوق المشي، والنَّصُّ: أرفع السَّير، ومن ذلك قيل لمنصَّة العروس: منصَّة؛ لارتفاعها فإذا ارتفع عن ذلك فهو الوَضْع والإِيضَاع، والفَجْوَةُ: الفُرْجَةُ والسَّعة، ومنه قوله: {وَهُمْ في فَجْوَةٍ مِّنْهُ}[الكهف:17]ويخرش بعيره يعني: يخرشه بالمحجن، ومنه تخارش السَّنانير والكلاب.