شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب ركوب البدن

          ░103▒ باب: رُكُوبِ الْبُدْنِ وَقَوْلِهِ: {وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ} إِلَى قولِهِ: {وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ}[الحج:36-37].
          قَالَ مُجَاهِدٌ: سُمِّيَتِ الْبُدْنَ لِبُدْنِهَا.
          فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ وأنسٌ: (أَنَّ النَّبيَّ صلعم رَأَى رَجُلا يَسُوقُ بَدَنَةً، فَقَالَ: ارْكَبْهَا، فَقَالَ: إِنَّهَا بَدَنَةٌ، فَقَالَ: ارْكَبْهَا، وَيْلَكَ، في الثَّانِيَةِ أَوْ الثَّالِثَةِ). [خ¦1689]
          قال المُهَلَّب: فيه من الفقه استعمال بعض ما وجه لله تعالى إذا احتيج إليه، على خلاف ما كانت الجاهليَّة عليه من أمر البحيرة والسَّائبة والوصيلة والحام، فأعلم الرَّسول صلعم إنَّما أهل به لله إنَّما هو دماؤها، وأمَّا لحومها والانتفاع بها قبل نحرها وبعده فغير ممنوع، بل هو مباح بخلاف سُنن الجاهليَّة.
          واختلف العلماء في ركوب الهدي الواجب والتَّطوع، فذهب أهل الظَّاهر إلى أنَّ ذلك جائز من غير ضرورة، وبه قال أحمد وإسحاق، وبعضهم أوجب ذلك، واحتجُّوا بحديث أبي هريرة وأنس، وكره مالك وأبو حنيفة والشَّافعيُّ ركوبها من غير ضرورة، وكرهوا شرب لبن النَّاقة بَعْدَ ريِّ فصيلها، وقال أبو حنيفة والشَّافعيُّ: إن نقصها الرُّكوبُ والشُّربُ فعليه قيمة ذلك، واحتجُّوا أنَّ ما خرج لله فغير جائز الرُّجوع في شيء منه والانتفاع به إلَّا عند الضَّرورة.
          وقال الطَّحاويُّ: احتمل أن يكون النَّبيُّ صلعم أمر بركوب البدنة لغير ضرورة، واحتمل أن يكون أمر بذلك لضرورة، فنظرنا في ذلك فإذا نصر بن مرزوق، حدَّثنا عن ابن مَعْبَد، حدَّثنا إسماعيل بن جعفر، عن حميد، عن أنس ((أنَّ النَّبيَّ صلعم رأى رجلًا يسوق بدنة، وقد جهد، فقال: اركبها، فقال: يا رسول الله إنَّها بدنة، قال اركبها)). وروى ابن أبي شيبة حدَّثنا أبو خالد(1) الأحمر، عن ابن جُريج، عن أبي الزُّبير، عن جابر في ركوب البدن قال: سمعت النَّبيَّ صلعم يقول: ((اركبها بالمعروف إذا لم تجد ظهرًا)). فأباح ◙ ركوبها في حال الضَّرورة، فثبت أنَّ حكم الهدي أن يركب للضَّرورة.
          وقد روي عن ابن عمر ما يدلُّ على هذا المعنى، روى هشيم عن الحجَّاج، عن نافع، عن ابن عمر ((أنَّه كان يقال للرَّجل إذا ساق بدنة وأعيا: اركبها، وما أنتم بمستنِّين سنَّةً هي أهدى من سنَّة محمِّد)).
          ثمَّ اعتبرنا ذلك من طريق النَّظر، فرأينا ما الملك فيه متكامل كالعبد الذي لم يُدبره مولاه، والأَمَة التي لم تلد، والبدنة التي لم يوجبها صاحبها، كلُّ ذلك جائز بيعه، والانتفاع به وجائز تمليك منافعه ببدل وبغير بدل، ورأينا البدنة إذا أوجبها ربُّها، فكلُّ قد أجمع أنَّه لا يجوز أن يؤاجرها، ولا يجوز أن يبيع منافعها، كان كذلك ليس له أن ينتفع بها، ولا يجوز له الانتفاع إلَّا بشيءٍ له التَّعوُّض بمنافعه وأخد البدل فيها، وروي عن مجاهد في قوله: {لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى}[الحج:33]قال: في ظهورها وألبانها وأصوافها وأوبارها حتَّى تصير بدنًا، وبه قال النَّخَعِيُّ وعروة.
          قال المُهَلَّب: وفيه من الفقه تكرير العالم الفتوى، وفيه توبيخ الذي لا يأتمر بالفتوى والدُّعاء عليه بالويل وشبهه، ممَّا عادة العرب أن تدعوا به، وقيل: هذا ممَّا لا يراد به الوقوع، وإنَّما هو على سبيل التَّحضيض، وقد قال◙ / : ((إنَّما أنا بشر أغضب كما تغضبون، فمن سَبَبْتُه فاجعل ذلك له كفَّارة وأجرًا)). فهذا دليل أنَّه ◙ لم يُرد بشيء من دُعائه على من وَبَّخَهُ الوقوع.


[1] في (ص): ((أبو خلاد)) والمثبت من المطبوع.