شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب التلبية

          ░26▒ باب: التَّلْبِيَةِ.
          فيه: ابْنُ عُمَرَ: (أَنَّ تَلْبِيَةَ رَسُولِ اللهِ صلعم لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ لا شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ، إِنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ وَالْمُلْكَ، لا شَرِيكَ لَكَ). وعن عائشة مثله. [خ¦1549]
          قال المُهَلَّب: معنى التَّلبية إجابة دعوة إبراهيم بالحجِّ إذ أمره الله بالأذان به، وهو من المواعيد المنتجزة لأنَّه تعالى وعده أن يأتوه رجالًا وعلى كلِّ ضامرٍ، ورُوي(1) عن ابن عبَّاسٍ أنَّه(2): ((لمَّا فرغَ إبراهيمُ من بناءِ البيتِ قيلَ لهُ: أذِّن في النَّاسِ بالحجِّ، قال: يا ربِّ، وما يبلغُ صوتِي؟ قالَ: أذِّن وعليَّ البلاغُ، فنادى إبراهيمُ: أيُّها النَّاسُ، كُتبَ عليكمُ الحجُّ إلى البيتِ العتيقِ، فسمعِهُ مَنْ بينَ السَّماءِ والأرضِ، أَلا(3) ترى النَّاسَ يجيئونَ مِنْ أقطارِ الأرضِ يُلبُّونَ)).
          وقال أهل اللُّغة: معنى لبَّيك لبَّيك إجابةٌ بعد إجابةٍ، من قولهم: ألبَّ بالمكان، إذا أقام به، فكأنَّه قال: أنا مقيم على طاعتك وإرادتك، وكذلك قولهم: سعديك، أي إسعادًا لك بعد إسعادٍ، أي أنا مساعدٌ لك ومتابعٌ لإرادتك(4).
          واختلف العلماء بتأويل القرآن في قوله تعالى: {فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ}[البقرة:197]فقال ابن عبَّاسٍ وعكرمة(5) وطاوس: الفرض الإهلال، وهو التَّلبية، قال(6) ابن مسعود وابن الزُّبير: الفرض الإحرام.
          وعند الثَّوريِّ وأبي حنيفة أنَّ التَّلبية ركن من أركان الحجِّ، ولا تنوب النِّيَّة عنها، كالدُّخول في الصَّلاة لا يصحُّ إلَّا بالنِّيَّة والتَّكبير جميعًا، إلَّا أنَّ أبا حنيفة ينوب عنده سائر الذِّكر(7) عن التَّلبية كالتَّكبير والتَّسبيح والتَّهليل، كما يقول في الإحرام بالصَّلاة.
          وعند مالك والشَّافعيِّ النِّيَّة في الإحرام تجزئه(8) عن الكلام، وكان مالك يرى على من ترك التَّلبية الدَّم، ولا يراه الشَّافعيُّ، والحجَّة لمالك أنَّ التَّلبية نُسُكٌ، ومن ترك من نسكه شيئًا أهراق دمًا، قال(9) إسماعيل بن إسحاق: ليس الإهلال للإحرام بمنزلة التَّكبير للصَّلاة لأنَّ الرَّجل لا يكون داخلًا في الصَّلاة إلَّا بالتَّكبير، ويكون داخلًا في الإحرام بالتَّلبية(10) وغيرها من الأعمال الَّتي يوجب بها الإحرام على نفسه، مثل أن يقول: قد أحرمت بالعمرة أو الحجِّ أو يشعر البُدْن(11)، وهو يريد بذلك الإحرام، أو يتوجَّه(12) نحو البيت وهو يريد بذلك الإحرام، فيكون بذلك(13) محرمًا. وأجمع العلماء على القول بهذه التَّلبية، واختلفوا في الزِّيادة عليها، فذكر ابن القصَّار عن الشَّافعيِّ قال: الأفضل(14) الاقتصار على تلبية رسول الله صلعم إلَّا أن يزيد عليها شيئين: ((لبَّيكَ إلهَ الحقِّ)) لأنَّ أبا هريرة رواه عن النَّبيِّ صلعم.
          والثَّاني: أن يقول إذا رأى شيئًا فأعجبه: ((لبَّيكَ إنَّ العيشَ عيشُ الآخرةِ)). كما فعل رسول الله صلعم حين(15) رأى النَّاس(16) يزدحمون في الطَّواف، وإذا زاد هذين كان كمن اقتصر على تلبية رسول الله صلعم، واحتجَّ بأنَّ سعد بن أبي وقَّاصٍ سمع رجلًا يقول: لبَّيك ذا المعارج، فقال: ما كنَّا(17) نقول هذا على عهد رسول الله صلعم.
          وقال مالك: إن اقتصر على تلبية رسول الله صلعم فحسنٌ، وإن زاد عليها فحسن، وهو قول أبي حنيفة والثَّوريِ وأحمد(18) وأبي ثورٍ، وقالوا: يزيد عليها(19) ما شاء، واحتجُّوا بما رواه مالك عن نافعٍ عن ابن عمر أنَّه كان يزيد فيها: لبَّيك(20) وسعديك، والخير بيديك، والرَّغباء إليك والعمل. وروى ابن القصَّار(21) عن جعفر بن محمَّد، عن أبيه، عن جابرٍ قال: ((أهلَّ رسولُ الله صلعم)). فذكر مثل حديث ابن عمر في التَّلبية قال: والنَّاس يزيدون لبَّيك ذا المعارج ونحوه من الكلام، والنَّبيُّ ◙ يسمع فلا يقول لهم شيئًا، وأنَّ عمر كان يقول بعد التَّلبية: لبَّيك ذا النَّعماء والفضل والثَّناء(22) الحسن، لبَّيك مرهوبًا منك ومرغوبًا إليك، وكان أنسٌ يقول في تلبيته: لبَّيك حقًّا حقًّا تعبدًّا ورقًّا.


[1] في (م): ((روي)).
[2] زاد في (م): ((قال)).
[3] في (م): ((أفلا)).
[4] في (م): ((لهواك)).
[5] زاد في (م): ((وعطاء)).
[6] في (م): ((وقال)).
[7] في (م) صورتها: ((الركن)).
[8] في (م): ((تجزئ)).
[9] في (م): ((وقال)).
[10] في (ز) و(ص): ((بالنية)) والمثبت من (م).
[11] في (م): ((بالعمرة والحج ويشعر الحج)).
[12] في (م): ((ويتوجه)).
[13] زاد في (م): ((كله)).
[14] قوله: ((الأفضل)) زيادة من (م).
[15] في (م): ((كما فعل ◙ حين)).
[16] قوله: ((الناس)) ليس في (م).
[17] قوله: ((كنا)) زيادة من (م).
[18] في (م): ((وأحمد والثوري)).
[19] في (م): ((فيها)).
[20] زاد في (م): ((لبيك)).
[21] في (م): ((وروى القطان)).
[22] قوله: ((والثناء)) ليس في (م).