شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب رمي الجمار بسبع حصيات

          ░136▒ باب: رَمْيِ الْجِمَارِ بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ
          فيه: عَبدُ اللهِ: (أَنَّهُ انْتَهَى إلى الْجَمْرَةِ الْكُبْرَى خَلَّ(1) الْبَيْتَ عَنْ يَسَارِهِ، وَمِنًى عَنْ يَمِينِهِ، وَرَمَى بِسَبْعٍ، وَقَالَ: هَكَذَا رَمَى الذي أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ سُورَةُ الْبَقَرَةِ). [خ¦1748]
          وترجم له باب: من رمى جمرة العقبة فجعل البيت عن يساره. اتَّفقت الأمَّة على أنَّ من رمى كلَّ جمرة بسبع حصيَّات فقد أحسن، واختلفوا إذا رماها بأقلَّ من سبع، فذكر الطَّبريُّ عن عطاء أنَّه إن رمى بخمس أجزأه، وعن مجاهد: إن رمى بستٍّ فلا شيء عليه، وذكر ابن المنذر أنَّ مجاهدًا احتجَّ بحديث سعد بن أبي وقَّاص قال: ((رجعنا مع النَّبيِّ صلعم وبعضنا يقول: رميت بستٍّ، وبعضنا يقول: رميت بسبع، فلم يَعِبْ بعضهم على بعض)) وبه قال أحمد وإسحاق، وعن طاووس إن رمى ستًّا يطعم تمرة أو لقمة.
          وذكر الطَّبريُّ قال: قال بعضهم: لو ترك رمي جميعهن بعد أن يكبِّر عند كلِّ جمرة بسبع تكبيرات أجزأه ذلك.
          وقال: إنَّما جعل الرَّمي في ذلك بالحصى سببًا لحفظ التَّكبيرات السَّبع، كما جعل عقد الأصابع بالتَّسبيح سببًا لحفظ العدد. وذكر عن يحيى بن سعيد أنَّه سئل عن الخرز والنَّوى يسبَّح به، فقال: حسن، قد كانت عائشة زوج النَّبيِّ صلعم تقول: إنَّما الحصى للجمار ليحفظ به التَّكبير.
          وقال الشَّافعيُّ وأبو ثور: إن بقيت عليه حصاة فعليه مُدٌّ من طعام، وفي حصاتين مُدَّان، وإن بقيت ثلاث فأكثر فعليه دم. وقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمَّد: إن ترك أقلَّ من نصف جميع الجمرات الثَّلاث فعليه في كلِّ حصاة نصف صاع من طعام إلَّا أن يبلغ ذلك دمًا، فيطعم ما شاء ويجزئه، وإن كان ترك أكثر من نصف جميع الجمرات الثَّلاث فعليه دم، وعلَّتهم إجماع الجميع أنَّ على(2) كلَّ تارك رمي الجمرات الثَّلاث في أيَّام الرَّمي حتَّى / تنقضي دمًا، فلمَّا كان ذلك إجماعًا كان الواجب أن يكون لترك رمي ما دون جميع الجمرات الثَّلاث من الدَّم بقسطه، وأن يكون ذلك مردودًا إلى القيمة؛ إذ كان غير ممكن نسك بعض الدَّم، فجعلوا ذلك طعامًا، وجعلوا ما يعطى كلُّ مسكين من ذلك قوت يومه، وجعلوا تارك ما زاد على نصف جميع الجمرات الثَّلاث بمنزلة تارك الجمرات كلِّها؛ إذ كان الحُكم عندهم للأغلب، مع أنَّ ذلك إجماع من الجميع.
          وقال الحكم وحمَّاد: من نسي جمرة أو جمرتين أو حصاة أو حصاتين يهريق دمًا.
          وقال عطاء: من نسي شيئًا من رمي الجمار فذكر ليلًا أو نهارًا فليرمي ما نسي، ولا شيء عليه، وإن مضت أيَّام التَشريق فعليه دم.
          وهو قول الأوزاعيِّ، وقال مالك: إن نسي حصاة من الجمرة حتَّى ذهبت أيَّام الرَّمي ذبح شاة، وإن نسي جمرة تامَّة ذبح بقرة.
          قال الطَّبريُّ: والصَواب عندنا أنَّ رمي جمرة العقبة يوم النَّحر بسبع حصيَّات، ورمي الجمرات الثَّلاث أيَّام التَّشريق الثَّلاثة كلَّ جمرة منها بسبع حصيَّات من مناسك الحجِّ التي لا يجوز تضييعها؛ لنقل الأمَّة جميعًا وراثة عن النَّبيِّ صلعم أنَّ رميهنَّ كذلك ممَّا عَلَّمَ أمَّته، وقد جعل الله بيان مناسكه إلى رسول الله فعُلم بذلك أنَّه من الفروض التي لا يجوز تضييعها، وعُلم أنَّ من ترك شيئًا ممَّا علَّمهم الرَّسول صلعم حتَّى فات وقته فعليه الكفَّارة؛ إذ كان قد نصَّ في محكم كتابه على وجوب ذلك في تضييع بعض المناسك، فكان في حكمه حكم ما لم ينصَّ الحكم فيه، فممَّا نصَّ الحكم فيه في كتابه الشَّعر الذي(3) تَقَدَّم إلى عباده في ترك حلقه أيَّام إحرامهم بقوله: {وَلاَ تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ}[البقرة:196]ثمَّ جعل في حلقه قبل وقته المباح لمرض أو أذى فديةً من طعام أو صدقة أو نسك، وكذلك أوجب في قاتل الصَّيد في الإحرام الكفَّارة، فمثل ذلك حكم كلِّ مضيِّع شيئًا من مناسك الحجِّ عليه الكفَّارة والبدل، وإن اختلفت الكفَّارات في ذلك إلَّا أن ينصَّ الله على وضع شيء من ذلك عن فاعله، ولمَّا ثبت أنَّ كلَّ جمرة منها فرض، بينَّا أنَّ الرَّسول صلعم كان منقولًا عنه وِرَاثة أنَّ من ضيَّع رميهنَّ حتَّى تنقضي أيَّام التَّشريق الثَّلاثة عليه فدية شاة يذبحها ويتصدَّق بها، كان على تارك بعضها ما على تارك جميعها، كما حكم تارك شوط واحد من السَّبعة الأشواط في طواف الإفاضة يوم النَّحر حكم تارك الأطواف السَّبعة فيما يلزمه.
          واختلفوا فيمن رمى سبع حصيَّات في مرَّة واحدة، فقال مالك والشَّافعيُّ: لا يجزئه إلَّا عن حصاةٍ واحدة، ويرمي بعدها سِتًّا. وقال عطاء: يجزئه عن السَّبع رميات. وهو قول أبي حنيفة؛ لأنَّه لو وجب عليه الحدُّ فلا فرق أن يقام عليه الحدُّ سوطًا سوطًا أو سياطًا مجموعة فإنَّه يسقط عنه الفرض إذا علم وصول الكلِّ إلى بدنه، كذلك الرَّمي.
          قال ابن القصَّار: والحجَّة لمالك أنَّ النَّبيَّ صلعم رمى بحصاةٍ بعد حصاة وقال: ((خذوا عني مناسككم)) فوجب امتثال فعله، ونحن فلا نجيز ضربه إلَّا بسوط بعد سوط؛ لأنَّه لا يكون ألم الكلِّ في ضربةٍ كألمه سوطًا بعد سوط، فالعدد في الحدِّ معتبر، وفي الرَّمي معتبر. وقال ابن المنذر: إذا جعل البيت عن يساره ومنى عن يمينه، فهو مستقبل للجمرة بوجهه وهي السُّنَّة، ولذلك ترجم باب من رمى جمرة العقبة فجعل البيت عن يساره.


[1] في المطبوع والصحيح: ((جعل)).
[2] في (ص): ((على أنَّ)) والمثبت من المطبوع.
[3] في (ص): ((التي)) والمثبت من المطبوع على أن العبارة كلها قلقة.