شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب وجوب الصفا والمروة وجعل من شعائر الله

          ░79▒ باب: وُجُوبِ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَجُعِلَ مِنْ شَعَائِرِ الحَجِّ(1).
          فيه: عُرْوَةُ: (سَأَلْتُ عَائِشَةَ أَرَأَيْتِ قَوْلَ اللهِ تعالى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا}[البقرة:158]، فَوَاللهِ مَا على أَحَدٍ جُنَاحٌ أَنْ لا يَطُوفَ بِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، قَالَتْ: بِئْسَ مَا قُلْتَ يَا ابْنَ أُخْتِي، إِنَّ هَذِهِ لَوْ كَانَتْ كَمَا أَوَّلْتَهَا عَلَيْهِ كَانَتْ لا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ لا يَتَطَوَّفَ بِهِمَا، وَلَكِنَّهَا أُنْزِلَتْ في الأنْصَارِ كَانُوا قَبْلَ أَنْ يُسْلِمُوا يُهِلُّونَ لِمَنَاةَ الطَّاغِيَةِ الَّتي كَانُوا يَعْبُدُونَهَا عِنْدَ الْمُشَلَّلِ، فَكَانَ مَنْ أَهَلَّ يَتَحَرَّجُ أَنْ يَطُوفَ بِين الصَّفَا(2) وَالْمَرْوَةِ، فَلما سَأَلُوا رَسُولَ اللهِ عَنْ ذَلِكَ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّا كُنَّا نَتَحَرَّجُ أَنْ نَطُوفَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ(3) فَأَنْزَلَ اللهُ: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللهِ} الآيَةَ، قَالَتْ عَائِشَةُ: وَقَدْ سَنَّ رَسُولُ اللهِ صلعم الطَّوَافَ بَيْنَهُمَا(4)، فَلَيْسَ لأحَدٍ أَنْ يَتْرُكَ الطَّوَافَ بَيْنَهُمَا، ثُمَّ أَخْبَرْتُ أَبَا بَكْرِ بْنَ عبد الرَّحْمَنِ، فَقَالَ: إِنَّ هَذَا لَعِلْمٌ(5) مَا كُنْتُ سَمِعْتُهُ، وَلَقَدْ سَمِعْتُ رِجَالًا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ يَذْكُرُونَ أَنَّ النَّاسَ إِلَّا مَنْ ذَكَرَتْ عَائِشَةُ مِمَّنْ كَانَ يُهِلُّ لمَنَاةَ، كَانُوا يَطُوفُونَ كُلُّهُمْ بِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، فَلَمَّا ذَكَرَ اللهُ تعالى الطَّوَافَ بِالْبَيْتِ، وَلَمْ يَذْكُرِ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ في الْقُرْآنِ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، كُنَّا نَطُوفُ بِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، وَإِنَّ اللهَ أَنْزَلَ الطَّوَافَ بِالْبَيْتِ فَلَمْ يَذْكُرِ الصَّفَا، فَهَلْ عَلَيْنَا مِنْ حَرَجٍ أَنْ نَطَّوَّفَ بِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ(6)؟ فَأَنْزَلَ اللهُ: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللهِ} الآيَةَ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَأَسْمَعُ هَذِهِ الآيَةَ نَزَلَتْ في الْفَرِيقَيْنِ كِلَيْهِمَا في الَّذِينَ كَانُوا يَتَحَرَّجُونَ أَنْ يَطُوفُوا في الْجَاهِلِيَّةِ بِالصَّفَا(7) وَالْمَرْوَةِ، وَالَّذِينَ كَانُوا يَطُوفُونَ، ثُمَّ تَحَرَّجُوا أَنْ يَطُوفُوا بِهِمَا في الإسْلامِ مِنْ أَجْلِ أَنَّ اللهَ أَمَرَ بِالطَّوَافِ بِالْبَيْتِ، وَلَمْ يَذْكُرِ الصَّفَا(8) حَتَّى ذَكَرَ ذَلِكَ بَعْدَ مَا ذَكَرَ الطَّوَافَ بِالْبَيْتِ). [خ¦1643]
          قال المؤلِّف: ذكر إسماعيل بن إسحاق عن الشَّعبيِّ قال: كان على الصَّفا وثنٌ يُقال له: يساف، وعلى المروة وثنٌ يُقال له: نائلة، فكان المشركون يطوفون بينهما، فلمَّا كان الإسلام قال ناسٌ: يا رسول الله، إنَّ أهل الجاهليَّة كانوا يطوفون بين الصَّفا والمروة للوثنين اللَّذين كان عليهما، وليسا من شعائر الله. فنزلت هذه الآية.
          واختلف العلماء في وجوب السَّعي بين الصَّفا والمروة، فرُوي عن ابن مسعودٍ وأُبيِّ بن كعبٍ وابن عبَّاسٍ أنَّه غير واجبٍ، وقال أنس بن مالك وابن الزُّبير: هو تطوُّعٌ. ورُوي مثله عن ابن سيرين، وقال الثَّوريُّ والكوفيُّون: هو واجبٌ إلَّا أنَّه(9) ينوب عنه الدَّم. ورُوي مثله عن عطاء والحسن وقَتادة، وقالت عائشة: هو فرضٌ. وبه قال مالك والشَّافعيُّ وأحمد وإسحاق وأبو ثورٍ، ويأمرون من بقي عليه منه شيء(10) بالرُّجوع إليه من بلده، فإن كان وطئ النِّساء قبل أن يرجع كان عليه إتمام حجِّه أو عمرته(11)، وحجُّ قابل والهديُ.
          واحتجَّ من لم يره واجبًا(12) بقراءة من قرأ: ▬فَلَا جُنَاحَ عَلَيهِ ألَّا يَطَّوَّفَ بِهِمَا↨ قالوا: فعلى هذه القراءة لا جناح عليه في ترك السَّعي كما قالت عائشة.
          واحتجَّ بعض أهل هذه المقالة أيضًا بقراءة الجماعة وقالوا: قوله تعالى: {فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا}[البقرة:158]يقتضي أن يكون السَّعي مباحًا لا واجبًا، كقوله: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاَةِ}[النساء:101]، والقصر مباحٌ لا واجبٌ، واحتجُّوا بقول عائشة في هذا الحديث: (وقد سَنَّ رَسُولُ الله صلعم الطَّوافَ بينَهُما) فمن قال: إنَّ السَّعي فرضٌ، فقد خالف ما تقتضيه الآية، وخالف لفظ الحديث. وما سُمِّي سُنَّة فليس بفريضةٍ، فهو سنَّةٌ مؤكَّدةٌ لا(13) ينبغي تركها.
          قال ابن القصَّار: فيُقال لهم: إنَّ عائشة قد ردَّت على عروة تأويل المخالف(14) في الآية وقالت(15): (بِئْسَ مَا قُلْتَ يَا ابْنَ أُخْتِي، إِنَّ هَذِهِ(16) لَوْ كَانَتْ كَمَا تأَوَّلْتَهَا لكَانَتْ(17) فلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ لا يَطَّوَّفَ، وإنَّما نَزَلَت(18) فِي الأَنصَارِ الَّذِينَ كَانُوا يَتَحَرَّجُونَ فِي الجَاهِلِيَّةِ أَنْ يَطُوفُوا بَينَهُما، وَفِي الَّذِينَ كَانُوا يطوفُونَ فِي الجَاهِلِيَّةِ ثُمَّ تَحَرَّجُوا أَنْ يَطُوفُوا فِي الإِسلَامِ) وهذا يبطل تأويلهم لأنَّ عائشة علمت سبب الآية وضبطت هذا المعنى الجليل، والصَّاحب إذا روى القصَّة مُفَسَّرةٌ فلا تفسير لأحدٍ معه.
          وقال غيره: لا(19) حجَّة لمن تعلَّق بقول عائشة (وَقَد سَنَّ رَسُولُ الله صلعم الطَّوَافَ بَينَهُما)، لأنَّه قد صحَّ من مذهبها(20) أنَّ ذلك فريضةٌ، والفرائض تثبت بالسُّنَّة كما يثبت القرآن(21) لأنَّ الله قد فرض طاعة رسوله ◙، فكلُّ ما جاء عن الرَّسول ◙ من فرضٍ أو سنَّةٍ فسائغ أن يُقال فيه: سَنَّه رسول الله، لأنَّه فرض عُلم من طريق السُّنَّة، وأمَّا قراءة من قرأ: ▬فَلَا جُنَاحَ عَلَيهِ أَلَّا يَطَّوَّفَ بِهِمَا↨ فلا حجَّة فيها لشذوذها، وأنَّه لم يقرأ بها أحد من أئمَّة القرَّاء.
          قال الطَّحاويُّ: وقد يجوز أن يرجع معنى القراءتين جميعًا إلى معنى واحد لأنَّ العرب قد تصل بـ لا(22) وتزيدها كقوله تعالى: {لاَ(23) أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَلاَ أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ}[القيامة:1-2]، وكقوله: {فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ}[الواقعة:75]، و{فلاَ(24) أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ}[المعارج:40]في معنى أقسم بيوم القيامة، وأقسم بكلِّ ما ذكر، و{مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ}[الأعراف:12]أي ما منعك أن تسجد، فيحتمل قول عائشة لعروة: كلا لو كانت كما تقول لكانت: فلا جناح عليه ألَّا يطوف بهما، على معنى الصِّلة الَّتي يرجع(25) بها إلى معنى قوله: {فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا}[البقرة:158]وفي حديث عائشة أنَّ رسول الله صلعم سَنَّ الطَّواف بينهما، وأنَّ قوله: {فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا} إنَّما هو على إباحة الطَّواف بينهما الَّذي(26) كانوا يتحرَّجونه، ثمَّ سَنَّ رسول الله صلعم الطَّواف بينهما، فصار من سنَّته الَّتي(27) ليس لأحد التَّخلُّف عنها مع ما تقدَّم من قوله تعالى فيهما أن جعلهما من شعائره، والشَّعائر العلامات، وقد قال تعالى: {وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ}[الحج:32].
          وقال ◙ حين طاف بهما: ((نَبدَأُ بِمَا بَدَأَ اللهُ بِهِ)). وقال: ((خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُم، لَا أَدرِي لَعَلِّي لَا(28) أَلقَاكُم بَعدَ عَامِي هَذَا)). وطاف بينهما، ودلَّ حديث حمَّاد بن سلمة عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أنَّها قالت: ما تمَّت حجَّة أحد ولا عمرته لم يطف بين الصَّفا والمروة، أن ذلك ممَّا لا يكون مأخوذًا من جهة الرَّأي، وإنَّما يُؤخذ من جهة التَّوقيف، وقولها ذلك يدلُّ على وجوب الصَّفا والمروة في الحجِّ والعمرة جميعًا.


[1] في (م): ((من شعائر الله)).
[2] في (م): ((يطوف بالصفا)).
[3] قوله: ((فلما سألوا رسول الله عن ذلك......... المروة)) ليس في (م).
[4] في (م): ((بهما)).
[5] في (م): ((العلم)).
[6] قوله: ((وإن الله أنزل الطواف........... والمروة)) ليس في (م).
[7] في (م): ((بين الصفا)).
[8] زاد في (م): ((والمروة)).
[9] في (م): ((أن)).
[10] في (م): ((شيء منه)).
[11] في (م): ((عمرة)).
[12] قوله: ((واجبًا)) ليس في (م).
[13] في (م): ((ولا)).
[14] قوله: ((المخالف)) ليس واضحًا في (ز) ولعله: ((الخلاف)).
[15] زاد في (م): ((له)).
[16] زاد في (م): ((الآية)).
[17] في (م): ((أولتها لكان)).
[18] في (م): ((أنزلت)).
[19] في (م): ((قال غيره: ولا)).
[20] في (م) صورتها: ((مذهبهما)).
[21] في (م): ((كما تثبت بالقرآن)).
[22] قوله: ((بلا)) ليس في (م).
[23] في (ز): ((فلا)) والمثبت من (م).
[24] في النسخ: ((لا)).
[25] صورتها في (ز): ((ترفع)).
[26] في (م): ((للذين)).
[27] في (م) صورتها: ((فصا من سنة النبي)).
[28] قوله: ((لا)) ليس في (م).