شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب من أشعر وقلد بذي الحليفة ثم أحرم

          ░106▒ باب: مَنْ أَشْعَرَ / وَقَلَّدَ الْهَدْيَ بذي الْحُلَيْفَةِ ثُمَّ أَحْرَمَ
          وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ إِذَا أَهْدَى مِنَ الْمَدِينَةِ قَلَّدَهُ وَأَشْعَرَهُ بذي الْحُلَيْفَةِ، يَطْعُنُ في شِقِّ سَنَامِهِ الأيْمَنِ بِالشَّفْرَةِ، وَوَجْهُهَا إلى الْقِبْلَةِ بَارِكَةً.
          فيه: مَرْوَانُ وَالْمِسْوَرُ، قَالا: (خَرَجَ النَّبيُّ صلعم زَمَنَ الْحُدَيْبِيَةِ في بِضْعَ عَشْرَةَ(1) مِائَةً مِنْ أَصْحَابِهِ، حَتَّى إِذَا كَانُوا بذي الْحُلَيْفَةِ، قَلَّدَ النَّبيُّ صلعم الْهَدْيَ، وَأَشْعَرَ، وَأَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ). [خ¦1694] [خ¦1695]
          وفيه: عَائِشَةُ، قَالَتْ: (فَتَلْتُ قَلائِدَ بُدْنِ رسُول الله بِيَدَيَّ، ثُمَّ قَلَّدَهَا وَأَشْعَرَهَا وَأَهْدَاهَا، فَمَا حَرُمَ عَلَيْهِ شَيْءٌ كَانَ حَلَّ لَهُ). [خ¦1696]
          غرض البخاريُّ في هذا الباب أن يبيِّن أنَّ من أراد أن يحرم بالحجِّ أو العمرة، وساق معه هديًا، فإنَّ المستحبَّ له ألَّا يشعر هديه، ولا يقلِّده إلَّا من ميقات بلده، وكذلك يستحبُّ له أيضًا ألَّا يحرم إلَّا بذلك الميقات على ما عمل النَّبيُّ صلعم بالحديبية وفي حجَّته أيضًا، وكذلك من أراد أن يبعث بهدي إلى البيت ولم يُرد الحجَّ والعمرة، وأقام في بلده فإنَّه يجوز له أن يقلِّده وأن يشعره في بلده، ثمَّ يبعث به كما فعل النَّبيُّ صلعم إذ بعث بهديه مع أبي بكر سنة تسع، ولم يوجب ذلك على النَّبيِّ صلعم إحرامًا ولا تجرُّدًا من ثيابه ولا غير ذلك، وعلى هذا جماعة أئمَّة الفتوى، منهم مالك واللَّيث والأوزاعيُّ والثَّوريُّ وأبو حنيفة والشَّافعيُّ وأحمد وإسحاق وأبو ثور، كلُّهم احتجَّ بحديث عائشة أنَّ تقليد الهدي لا يوجب الإحرام على من لم يَنْوِهِ، وَرَدُّوا قول ابن عبَّاس، فإنَّه كان يرى أنَّ من بعث بهدي إلى الكعبة، لزمه إذا قلَّده الإحرامُ، وتجنُّبُ كلِّ ما يتجنَّب الحاجُّ حتَّى ينحر هديه، وتابع ابنَ عبَّاس على ذلك ابنُ عمر، وبه قال عطاء، وهم محجوجون بالسُّنَّة الثَّابتة في(2) حديث عائشة، وليس أحد بحجَّة على السُّنَّة.
          قال الطَّحاويُّ: وقد رأى ربيعة بن الهُدَيْر رجلًا متجرِّدًا بالعراق، فسأل النَّاس عنه، فقالوا: أمر بهديه أن يقلَّد فلذلك تجرَّد، فذكر ذلك لابن الزُّبير، فقال: بدعة وربِّ الكعبة. فلا يجوز أن يكون ابن الزُّبير حلف على ذلك أنَّه بدعة إلَّا وقد علم أنَّ السُّنَّة خلاف ذلك.


[1] في (ص): ((عشر)).
[2] قوله: ((في)) ليس في (ص) والمثبت من المطبوع.