شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب ما يلبس المحرم من الثياب والأردية والأزر

          ░23▒ باب: مَا يَلْبَسُ الْمُحْرِمُ مِنَ الثِّيَابِ وَالأرْدِيَةِ وَالأزُرِ.
          وَلَبِسَتْ عَائِشَةُ الثِّيَابَ الْمُعَصْفَرَةَ وَهَيَ مُحرِمة، وَقَالَتْ: (لا تَلَثَّمْ، وَلا تَتَنقب(1)، وَلا تَلْبَسْ ثَوْبًا بِوَرْسٍ أوْ زَعْفَرَانٍ. وَقَالَ جَابِرٌ: لا أَرَى الْمُعَصْفَرَ طِيبًا، وَلَمْ تَرَ عَائِشَةُ بَأْسًا بِالْحُلِيِّ، وَالثَّوْبِ الأسْوَدِ وَالْمُوَرَّدِ وَالْخُفِّ لِلْمَرْأَةِ. وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: لا بَأْسَ أَنْ يُبْدِلَ ثِيَابَهُ).
          فيه: ابْنُ عَبَّاسٍ: (انْطَلَقَ النَّبيُّ صلعم مِنَ الْمَدِينَةِ بَعْدَ مَا تَرَجَّلَ وَادَّهَنَ، وَلَبِسَ إِزَارَهُ وَرِدَاءَهُ(2) هُوَ وَأَصْحَابُهُ، فَلَمْ يَنْهَ عَنْ شَيْءٍ مِنَ الأرْدِيَةِ وَالأزُرِ تُلْبَسُ إِلَّا الْمُزَعْفَرَةَ الَّتي تَرْدَعُ على الْجِلْدِ، فَأَصْبَحَ بذي الْحُلَيْفَةِ ورَكِبَ(3) رَاحِلَتَهُ حَتَّى اسْتَوَى على الْبَيْدَاءِ أَهَلَّ هُوَ وَأَصْحَابُهُ، وَقَلَّدَ بَدَنَتَهُ(4)، وَذَلِكَ لِخَمْسٍ بَقِينَ مِنْ ذي الْقَعْدَةِ فَقَدِمَ(5) مَكَّةَ لأرْبَعِ لَيَالٍ خَلَوْنَ مِنْ ذي الْحَجَّةِ، فَطَافَ بِالْبَيْتِ، وَسَعَى بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، وَلَمْ يَحِلَّ مِنْ أَجْلِ بُدْنِهِ؛ لأنَّهُ قَلَّدَهَا، ثُمَّ نَزَلَ بِأَعلى مَكَّةَ عِنْدَ الْحَجُونِ، وَهُوَ مُهِلٌّ بِالْحَجِّ، وَلَمْ يَقْرَبِ الْكَعْبَةَ بَعْدَ طَوَافِهِ بِهَا حَتَّى رَجَعَ مِنْ عَرَفَةَ، فَأَمَرَ(6) أَصْحَابَهُ أَنْ يَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ، وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، ثُمَّ يُقَصِّرُوا مِنْ رُؤُوسِهِمْ، ثُمَّ يَحِلُّوا، وَذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ بَدَنَةٌ قَلَّدَهَا، وَمَنْ كَانَتْ مَعَهُ امْرَأَتُهُ فَهِيَ لَهُ حَلالٌ وَالطِّيبُ وَالثِّيَابُ). [خ¦1545]
          قال المُهَلَّب: أجمع المسلمون أنَّ المحرم لا يلبس إلَّا(7) الأُرز والأردية وما ليس بمخيطٍ، لأنَّ لبس المخيط من التَّرفُّه، فأراد الله ╡ أن يأتوه(8) شعثًا غبرًا عليهم(9) آثار الذِّلة والخشوع، فلذلك(10) نهى ◙ المحرم أن يلبس ثوبًا مصبوغًا بورسٍ أو زعفرانٍ لأنَّ ذلك طيبٌ، ولا خلاف بين العلماء أنَّ لبس المحرم ذلك(11) لا يجوز.
          واختلفوا في الثَّوب المعصفر للمحرم، فأجازه جابر وابن عمر وعائشة وأسماء بنت أبي بكرٍ، وهو قول القاسم وعطاء وربيعة.
          وقال مالك: المعصفر(12) ليس بطيبٍ، وكرهه للمحرم لأنَّه ينتفض على جلده، فإن فعل فقد أساء ولا فدية عليه، وهو قول الشَّافعيِّ، وقال أبو ثورٍ: إنَّما كرهنا المعصفر لأنَّ النَّبيَّ ◙ نهى(13) عنه، لا أنَّه طيب، وكره عُمَر بن الخطَّاب لباس الثِّياب المصبغة.
          وقال أبو حنيفة والثَّوريُّ(14): المعصفر(15) طيبٌ وفيه الفدية، وقال ابن المنذر: إنَّما نُهي عن المصبَّغة في / الإحرام تأديبًا، ولئلَّا يلبسه من يقتدي به، فيغترُّ به الجاهل ولا يميِّز بينه وبين الثَّوب المزعفر، فيكون ذريعة للجهَّال إلى لبس ما نُهي عنه المحرم من الورس والزَّعفران.
          والدَّليل على ذلك: أنَّ عمر رأى على طلحة بن عبيد الله ثوبًا مصبوغًا فقال له: ما هذا يا طلحة؟ قال: يا أمير المؤمنين إنَّما هو مدر، فقال(16) عمر: إنَّكم أيُّها الرَّهط أئمَّة يُقتدى بكم، لو أنَّ رجلًا جاهلًا رأى هذا الثَّوب قال: رأيت طلحة يلبس المصبغة في الإحرام.
          وإن كان أراد به(17) التَّحريم فقد خالفه غيره من أصحاب رسول الله صلعم والصَّواب عند اختلافهم أن ينظر إلى أَوْلاهم قولًا فيُقال به، وإطلاق ذلك أولى من تحريمه لأنَّ الأشياء كانت على الإباحة قبل الإحرام، فلا يجب التَّحريم إلَّا بيقين، وقد رُوِّينا أنَّ عمر(18) أنكر على عقيل لبسه المورَّدتين(19)، وأنكر على عبد الله بن جعفر ثوبين مضرَّجين قال عليٌّ لعمر: دعنا منك، فإنَّه ليس أحدٌ يُعلِّمنا السُّنَّة، قال(20) عمر: صدقت.
          قال ابن المنذر: ورخَّصت(21) طائفة(22) في الحليِّ للمحرمة، وهو قول أبي حنيفة وأحمد، وكره ذلك عطاء والثَّوريُّ وأبو ثورٍ، وأجمع العلماء أنَّ المرأة(23) تلبس المخيط كلَّه والخُمُر والخفاف، وأنَّ إحرامها في وجهها، وأنَّ لها أن تغطِّي رأسها وتستر شعرها، وتسدل الثَّوب على وجهها سترًا(24) خفيفًا تستتر به عن نظر الرِّجال، ولم يجيزوا لها تغطية وجهها إلَّا ما رُوي عن فاطمة بنت المنذر قالت: كنَّا نخمِّر وجوهنا ونحن محرمات مع أسماء بنت أبي بكر.
          قال ابن المبارك(25): على(26) أن يكون كنحو ما رُوي عن عائشة قالت: ((كنَّا معَ رسولِ اللهِ صلعم ونحنُ محرماتٌ(27)، فإذا مرَّ بنا ركبٌ(28) سدلنا الثَّوبَ من قبل رؤوسنا، فإذا جاوزَ(29) رفعنَاهُ)). ولا يكون ذلك خلافًا، وثبت كراهية(30) النِّقاب عن سعدٍ، وابن عبَّاسٍ وابن عمر وعائشة، ولا نعلم أحدًا من أصحاب النَّبيِّ ◙(31) رخَّص فيه، وكان ابن عمر ينهى(32) عن القفَّازين، وهو قول النَّخَعِيِّ.
          وقال مالك: إن لبست البرقع والقفَّازين افتدت كفدية الرَّجل لأنَّ إحرام المرأة عنده في وجهها ويديها، وكرهت طائفةٌ(33) اللِّثام والنِّقاب(34) للمرأة، وأباحت لها القفَّازين، وهو قول عطاء.
          واختلفوا في تخمير وجه المحرم، فقال ابن عمر: لا يخمِّر وجهه. وكرهه مالك ومحمَّد بن الحسن، قيل لابن القاسم: أترى عليه الفدية؟ قال: لا أرى عليه فدية لما جاء عن عثمان.
          وقال في(35) «المدوَّنة» في موضعٍ آخر: إن غطَّى وجهه ونزعه مكانه فلا شيء عليه، وإن لم ينزعه حتَّى انتفع افتدى وكذلك المرأة إلَّا إذا أرادت سترًا. ورُوي عن ابن عبَّاس وابن الزُّبير وزيد بن ثابتٍ وسعد بن أبي وقَّاصٍ وعبد الرَّحمن بن عوف وجابر أنَّهم أجازوا للمحرم تغطية وجهه خلاف ابن عمر، وبه قال الثَّوريُّ والشَّافعيُّ وأحمد وإسحاق وأبو ثورٍ، وهذا يخرَّج على أن يكون(36) إحرام الرَّجل عندهم في رأسه(37).
          قال المُهَلَّب: في(38) حديث ابن عبَّاس إفراد النَّبيِ ◙ للحجِّ، وفسخ الحجِّ لمن لم يكن معه هدي، والبقاء على الإحرام الأوَّل لمن كان معه هدي لأنَّ من قلَّد هديه فلابدَّ له(39) أن يوقعه موقعه بعرفة لقوله تعالى: {حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ}[البقرة:196]، وسيأتي معنى(40) ذلك في بابه إن شاء الله. [خ¦1557]
          قال المؤلِّف: من روى في هذا الحديث (الَّتي تَردَعُ عَلَى الجِلدِ) بالعين فهو معنى معروف. تقول العرب: ارتَدَع وتَردَع: الْتطخَ(41) بالطِّيب، والرَّدع أثر الطِّيب، وردع به الطِّيب: إذا التزق بجلده(42) ويده منه رَدعَة، ومن رواه (تَردَغُ) بالغين المنقوطة فهو من قولهم: أردغت الأرض: كثرت رِداغها، وهي مناقع المياه، ومثله أرزغت الأرض بالزَّاي: كثرت رَزاغها، جمع رَزغة كالرَّدغة(43)، ذكره صاحب «كتاب الأفعال» وذكر أردَغ وأرزَغ في باب أفعل خاصة.


[1] في (م): ((ولا تتبرقع)) وصورتها في النسخة المصرية ((تنقَّب)).
[2] قوله: ((وردائه)) ليس في (م).
[3] في (م): ((ركب)).
[4] في (م): ((بدنه)).
[5] في (م): ((قدم)).
[6] في (م): ((وأمر)).
[7] قوله: ((إلا)) ليس في (م) والنسخة المصرية.
[8] في (م): ((يأتوا)).
[9] قوله: ((عليهم)) ليس في المكف، وفي المطبوع: ((عليهم)).
[10] في (م): ((ولذلك)).
[11] في (م): ((أن لباس ذلك للمحرم)) وفي المصرية: ((أن ليس ذلك للمحرم)).
[12] في (م): ((العصفر)).
[13] قوله: ((نهى)) ليس في (ز) والمصرية وهو مثبت من (م).
[14] في (ز) والمصرية: ((والشافعي))، وكتب فيهما تحتها: ((والثوري)).
[15] في (م): ((العصفر)).
[16] في (م) والمصرية: ((قال)).
[17] زاد في (م): ((عمر)).
[18] زاد في (م): ((لما)).
[19] زاد في (م): ((في الإحرام)).
[20] في (م): ((فقال)).
[21] في (م): ((رخصت)).
[22] في (م): ((عائشة)).
[23] زاد في (م): ((المحرمة)).
[24] في (م): ((سدلا)).
[25] في (م): ((ابن المنذر)).
[26] في (م): ((يحتمل)).
[27] في (م): ((محرمون)).
[28] في (م): ((راكب)).
[29] في (م): ((جاوزنا)).
[30] في (م): ((وثبتت كراهة)).
[31] في (م): ((ولا نعلم من أصحاب رسول الله أحدًا)).
[32] زاد في (م): ((المرأة)).
[33] في (م): ((عائشة)).
[34] قوله: ((والنقاب)) ليس في (م).
[35] في (م): ((قال وفي)).
[36] قوله: ((يكون)) ليس في (م).
[37] زاد في (م): ((خاصة لا في وجهه)).
[38] في (م): ((وفي)).
[39] في (م): ((فلا بد له من أن)) وفي المكف ((لا بد من أن))، و في المطبوع: ((فلا بد من أن)).
[40] في (م): ((معاني)).
[41] في (م) صورتها: ((النضح)).
[42] في (م): ((بجسمه)).
[43] في (م) صورتها: ((كالودعة)).