شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب رفع الصوت بالإهلال

          ░25▒ باب: رَفْعِ الصَّوْتِ بِالإهْلالِ.
          فيه: أَنَسٌ: (صَلَّى النَّبيُّ صلعم بِالْمَدِينَةِ الظُّهْرَ أَرْبَعًا، وَالْعَصْرَ بذي الْحُلَيْفَةِ رَكْعَتَيْنِ، وَسَمِعْتُهُمْ يَصْرُخُونَ بِهِمَا جَمِيعًا). [خ¦1548]
          قال الطَّبريُّ: الإهلال رفع الصَّوت بالتَّلبية، ومنه استهلال المولود، وهو صياحه إذا سقط من بطن أمِّه، ومنه قوله تعالى: {وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ(1)}[البقرة:173]يعني ما رُفع به(2) الصَّوت عند ذبحه للآلهة، وكلُّ رافع صوته بشيء فهو يهلُّ به(3)، ومنه استهلال المطر والدَّمع، وهو صوت وقعه بالأرض، ويُقال: أهلَّ القوم الهلال، إذا رأوه. وأرى أنَّ ذلك إنَّما هو من الإهلال الَّذي هو الصَّوت لأنَّه كان يرفع عند رؤيته الأصوات(4) إمَّا بدعاءٍ أو غيره(5)، وأوجب أهل الظَّاهر رفع الصَّوت بالإهلال، وخالفهم الجماعة(6) في ذلك، وهو عندي(7) مستحبٌّ.
          فروي عن ابن عبَّاسٍ أنَّه كان يرفع صوته بالتَّلبية ويقول: هي زينة الحجِّ، وكان ابن عمر يرفع بها صوته، وقال أبو حازم: كان أصحاب النَّبيِّ صلعم لا يبلغون الرَّوحاء حتَّى تبحَّ حلوقهم من التَّلبية، وبه قال أبو حنيفة والثَّوريُّ والشَّافعيُّ.
          واختلفت الرِّواية عن مالك، فروى ابن القاسم عنه أنَّه لا تُرفع الأصوات بالتَّلبية إلَّا في المسجد الحرام ومسجد منى، وزاد في «الموطَّأ»: ولا يرفع صوته في مساجد الجماعات، وروى ابن نافع عنه أنَّه يرفع صوته في المساجد التي بين مكَّة والمدينة.
          واحتجَّ إسماعيل للقولين فقال: وجه القول الأوَّل أنَّ مساجد الجماعات(8) إنَّما بُنيت للصَّلاة خاصَّة، فكره رفع الصَّوت فيها، وليس كذلك المسجد الحرام ومسجد منى لأنَّ المسجد الحرام جُعل للحاجِّ وغيره، وكأنَّ الملبِّي إنَّما يقصد إليه فكان له فيه من الخصوص ما ليس في غيره، ومسجد منى فهو للحاجِّ خاصَّة، ووجه رواية ابن نافع أنَّ المساجد الَّتي بين مكَّة والمدينة إنَّما جُعلت للمجتازين، وأكثرهم المحرمون فهم من النَّحو الَّذي وصفنا.
          وأجمعوا أنَّ المرأة لا ترفع صوتها بالتَّلبية، وإنَّما عليها أن تُسمع نفسها.
          قال المُهَلَّب: وقول أنس: (وَسَمِعتُهُم يَصرُخُونَ بِهِما) إنَّما سمع الَّذين قرنوا خاصَّةً لثبوت الإفراد، وليس في حديث أنس أنَّه سمع الرَّسول(9) ◙ يصرخ بالحجِّ والعمرة، وإنَّما(10) أخبر بذلك(11) عن قوم فعلوه، وقد يمكن أن يسمع قومًا يصرخون بحجٍّ وقومًا يصرخون بعمرةٍ، وقد روى أنس عن الرَّسول(12) ◙ ما يردُّ روايته هذه، وهو قوله ◙: ((لَولَا أنَّ معيَ الهديَ لَأحلَلتُ)). وسيأتي بيان ذلك في باب التَّمتُّع والقران(13) والإفراد بالحجِّ بعد هذا إن شاء الله. [خ¦1568]
          وفيه: ردُّ قول أهل الظَّاهر في إجازتهم تقصير الصَّلاة في مقدار ما بين المدينة وذي الحليفة وفي أقلَّ من ذلك لأنَّه إنَّما قصر الصَّلاة بذي الحليفة لأنَّه كان خارجًا إلى مكَّة فلذلك / قصر العصر بذي الحليفة، بدليل قوله: (وَسَمِعتُهُم يَصرُخُونَ بِهِما جَمِيعًا) يعني بالحجِّ والعمرة، وبين المدينة وذي الحليفة ستَّة أميالٍ.


[1] في (م): (({وما أهل غير الله به})).
[2] في (م): ((فيه)).
[3] في (م): ((فهو مهل فيه)).
[4] في (م): ((الصوت)).
[5] في (م): ((وغيره)).
[6] في (م): ((وخالفتهم الجماعة)).
[7] في (م): ((عندهم)).
[8] قوله: ((وروى ابن نافع عنه أنه يرفع.... مساجد الجماعات)) زيادة من (م)، وليس في (ص).
[9] في (م): ((النبي)).
[10] في (م): ((إنما)).
[11] في (ز): ((ذلك)) والمثبت من (م) و(ص).
[12] في (م): ((النبي)).
[13] في (م): ((والإقران)).