شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب الجمع بين الصلاتين بالمزدلفة

          ░95▒ باب: الْجَمْعِ بَيْنَ الصَّلاتَيْنِ بِالْمُزْدَلِفَةِ
          فيه: أُسَامَةُ قَالَ: (دَفَعَ النَّبيُّ صلعم مِنْ عَرَفَةَ، فَنَزَلَ الشِّعْبَ، بَالَ ثُمَّ تَوَضَّأَ وَلَمْ يُسْبِغِ الْوُضُوءَ، فَقُلْتُ: الصَّلاةُ، فَقَالَ: الصَّلاةُ أَمَامَكَ؟ فَجَاءَ الْمُزْدَلِفَةَ، فَتَوَضَّأَ فَأَسْبَغَ الْوُضُوءَ، ثُمَّ أُقِيمَتِ الصَّلاةُ / فَصَلَّى الْمَغْرِبَ، ثُمَّ أَنَاخَ كُلُّ إِنْسَانٍ بَعِيرَهُ في مَنْزِلِهِ، ثُمَّ أُقِيمَتِ الصَّلاةُ فَصَلَّى، وَلَمْ يُصَلِّ بَيْنَهُمَا). [خ¦1672]
          قال الطَّحاويُّ: معنى قوله: (الصَّلاةُ أَمَامَكَ) أي: المصلَّى الذي تصلِّي فيه المغرب والعشاء. وقال الطَّبريُّ: فيه البيان أنَّ السُّنَّة في إمام الحاجِّ ألَّا يصلِّي ليلة يوم النَّحر المغرب والعشاء إلَّا بالمزدلفة.
          قال ابن المنذر: وأجمع العلماء على ذلك، ثمَّ اختلفوا فيمن صلَّاهما قبل أن يأتي المزدلفة، فروي عن جابر بن عبد الله أنَّه قال: لا صلاة إلَّا بِجَمْع، وإليه ذهب أبو حنيفة ومحمَّد والثَّوريُّ وقالوا: إن صلَّاهما قبل المزدلفة فعليه الإعادة وإن صلاهما بعد مغيب الشَّفق، وأخذو بظاهر قوله ◙: (الصَّلاةُ أَمَامَكَ) فمن صلَّاهما دون المزدلفة فقد صلَّاهما في غير وقتهما، ومن صلَّى صلاة في غير وقتها فعليه إعادتها بعد دخول وقتها.
          وقال مالك: لا يصلِّيهما أحد قبل جَمْعٍ إلَّا من عُذْرٍ به أو بدابَّته، فإن صلَّاهما بعذر لم يجمع بينهما حتَّى يغيب الشَّفق.
          وفيها قول ثالث: إن صلَّاهما قبل جَمْعٍ أجزأه، إمام الحاجِّ كان أو غيره، وروي ذلك عن عُمَر بن الخطَّاب وابن عبَّاس وابن الزُّبير، وعن عطاء وعروة والقاسم، وبه قال الأوزاعيُّ وأبو يوسف، والشَّافعيُّ وأحمد وإسحاق وأبو ثور، وحجَّة من أجاز الصَّلاة أنَّ النَّبيَّ صلعم جعل وقت هاتين الصَّلاتين من حين تغيب الشَّمس إلى آخر وقت العشاء الآخرة، وجعل له إن شاء أن يصلِّيهما في أوَّل وقتهما، وإن شاء في آخره، فأوقات الصَّلوات إنَّما هي محدودة بالسَّاعات والزَّمان، فمن صلَّاهما بعد غروب الشَّمس بعرفة أو دون المزدلفة فقد أصاب الوقت وإن ترك الاختيار لنفسه في الموضع، والصَّلاة لا تبطل بالخطأ في الموضع إذا لم يكن نجسًا، ألا ترى أنَّ من صلَّاها بعد خروج وقتها بالمزدلفة ممَّن لم يَصِلْ إلى المزدلفة إلَّا بعد طلوع الفجر أنَّه قد فاته وقتها، فلا اعتبار بالمكان، ويشبه هذا المعنى قوله ◙: ((لا يصلِّينَّ أحدكم العصر إلَّا في بني قريظة)). وأدرك وقت الصَّلاة القوم في بعض الطَّريق، فمنهم من صلَّى، ومنهم من أَخَّر إلى بني قريظة، فلم يعنِّف النَّبيُّ صلعم أحدًا منهم.
          واحتجَّ الطَّحاويُّ لأبي يوسف فقال: لا يختلفون في الصَّلاتين اللَّتين تصلِّيان بعرفة أنَّهما لو صلِّيتا دونها كلَّ واحدة منهما في وقتها في سائر الأيَّام كانتا مجزئتين، فالصَّلاتان بمزدلفة أحرى أن تكونا كذلك؛ لأنَّ أمر عرفة لمَّا كان أوكد من أمر مزدلفة كان ما يفعل في عرفة أوكد ممَّا يفعل في مزدلفة، فثبت ما قال أبو يوسف، وانتفى ما قاله الآخرون.
          قال المُهَلَّب: وقوله: (وتوضَّأَ ولم يُسبِغِ الوُضوءَ) يريد أنَّه خفَّف الوضوء، وهو أدنى ما تجزئ الصَّلاة به دون تكرار إمرار اليد عليه ليخصَّ كلَّ صلاة بوضوء على حسب عادته، وقد تقدَّم بيان ذلك في كتاب الوضوء، والحمد لله. [خ¦139]
          قال الخطَّابيُّ: وسمِّيت المزدلفة لاقترابهم إلى منًى بعد الإفاضة من عرفات، يقال: ازدلف القوم، إذا اقتربوا، ويقال: بل سمِّيت مزدلفة لأنَّها منزلة وقربة من الله، وهو قول ثعلب، قال: ومنه قوله تعالى: {فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً}[الملك:27]، أي رأوا العذاب قرب، ومنه قوله تعالى: {وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الآخَرِينَ}[الشعراء:64]أي: قرَّبناهم من الهلاك، وقال الطَّبريُّ: إنَّما سمِّيت مزدلفة لإزدلاف آدم إلى حواء بها، وكان كلُّ واحد منهما حين أهبط إلى الأرض أهبط إلى مكان غير مكان صاحبه، فازدلف كلُّ واحد منهما إلى صاحبه، فتلاقيا بالمزدلفة، فسمِّيت البقعة بذلك.
          والشِّعب: الطَّريق في الجبل، بكسر الشِّين، والشَّعب بفتح الشِّين: الجمع بين الشَّيئين، يقال: شعب فلان الشَّيء، إذا جمعه ولأمه، ومنه قول الطِّرمَّاح:
شتَّ شَعْبُ القَومِ بَعْدَ الْتِئامِ
          وقال الطَّبريُّ: واختلفوا في السَّبب الذي من أجله سمِّيت عرفة. فقال عليُّ بن أبي طالب وغيره: إنَّما قيل لها ذلك لأنَّ الله بعث جبريل إلى إبراهيم فحجَّ به، فلمَّا أتى عرفة قال: قد عرفت، وكان قد أتاها مرَّة / قبل ذلك.
          وقال جماعة أخرى: إنَّما قيل لها: عرفات لأنَّ جبريل كان يقول لإبراهيم: هذا موضع كذا، وهذا موضع كذا، فيقول: قد عرفت قد عرفت.