شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب الذبح قبل الحلق

          ░125▒ باب: الذَّبْحِ قَبْلَ الْحَلْقِ
          فيه: ابْنُ عَبَّاسٍ: (قَالَ ◙: مَّنْ حَلَقَ قَبْلَ أَنْ يَذْبَحَ لا حَرَجَ، لا حَرَجَ، فَقَالَ رَجُلٌ لِلنَّبِيِّ ◙: زُرْتُ قَبْلَ أَنْ أَرْمِيَ، قَالَ: لا حَرَجَ، قَالَ: ذَبَحْتُ قَبْلَ أَنْ أَرْمِيَ، قَالَ: لا حَرَجَ. قَالَ: رَمَيْتُ بَعْدَ مَا أَمْسَيْتُ؟ قَالَ: لا حَرَجَ، قَالَ: حَلَقْتُ قَبْلَ أَنْ أَنْحَرَ، قَالَ: لا حَرَجَ). [خ¦1721]
          وفيه: أَبُو مُوسَى قَالَ: (قَدِمْتُ على النَّبيِّ صلعم وَهُوَ بِالْبَطْحَاءِ، فَقَالَ: أَحَجَجْتَ؟ قُلْتُ: نَعَمْ... الحديث إلى قول عُمرَ: وَإِنْ نَأْخُذْ بِسُنَّةِ النَّبيِّ صلعم فَإِنَّ النَّبيَّ صلعم لَمْ يَحِلَّ حَتَّى بَلَغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ). [خ¦1724]
          سنَّة الحاجِّ أن يرمي جمرة العقبة يوم النَّحر ثمَّ ينحر، ثمَّ يحلق رأسه، ثمَّ يطوف طواف الإفاضة، وهو الذي يسمِّيه أهل العراق: طواف الزِّيارة، وكذلك فعل النَّبيُّ صلعم، وهذا المعنى يقتضي حديث عمر في حديث أبي موسى أنَّ النَّبيَّ صلعم لم يحلَّ حتَّى بلغ، يريد أنَّه لم يحلق حتَّى نحر الهدي، وهذا معنى التَّرجمة، فمن قدَّم شيئًا عن رتبته فللعلماء في ذلك أقوال:
          فذهب عطاء وطاووس ومجاهد إلى أنَّه إن قدَّم نسكًا قبل نسكٍ أنَّه لا حرج عليه، وبه قال أحمد وإسحاق، وقال ابن عبَّاس: من قدَّم من حجِّه شيئًا أو أخَّره فعليه دم. وهو قول الشَّعبيِّ والحسن وقَتادة. واختلفوا إذا حَلق قبل أن يذبح، فقال مالك والثَّوريُّ والأوزاعيُّ والشَّافعيُّ وأحمد وإسحاق وأبو ثور: لا شيء عليه. وهو نصُّ الحديث. وقال النَّخَعِيُّ: عليه دم. وهو قول أبي حنيفة، قال: وكذلك إن كان قارنًا، والمراد بالمحلِّ قوله تعالى: {وَلاَ تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ}[البقرة:196]المكان الذي يقع فيه النَّحر؛ فإذا بلغ محلَّه جاز أن يحلق قبل الذَّبح. وقال زفر: إن كان قارنًا فعليه دمان لتقدُّم الحلاق. وقال أبو يوسف ومحمَّد: لا شيء عليه. واحتجَّا بقوله ◙: (لا حَرَجَ) وقول أبي حنيفة وزفر مخالف للحديث، فلا وجه له.
          واختلفوا فيمن طاف للزِّيارة قبل أن يرمي، فقال الشَّافعيُّ: إنَّ ذلك يجزئه ويرمي، على نصِّ الحديث. وروى ابن عبد الحكم عن مالك أنَّه يرمي ثمَّ يحلق رأسه، ثمَّ يعيد الطَّواف؛ فإن رجع إلى بلده فعليه دم، ويجزئه طوافه، وهذا خلاف نصِّ ابن عبَّاس، وأظنُّ مالكًا لم يبلغه الحديث، وفيه رَدٌّ لما كرهه مالك أن يسمَّى طواف الإفاضة: طواف الزِّيارة؛ لأنَّ الرَّجل قال للنَّبيِّ ◙: (زُرْتُ قَبْلَ أَنْ أَرْمِيَ) فلم ينكر الرَّسولُ عليه.
          واختلفوا فيمن أفاض قبل أن يحلق بعد الرَّمي، فقال ابن عمر: يرجع فيحلق أو يُقَصِّر، ثمَّ يرجع إلى البيت فيفيض. وقالت طائفة: تجزئه الإفاضة ويحلق أو يقصِّر، ولا شيء عليه. هذا قول عطاء ومالك والشَّافعيِّ، وقال مالك في «الموطَّأ»: أحبُّ إليَّ أن يهريق دمًا؛ لحديث ابن عبَّاس.
          وأمَّا إذا ذبح قبل أن يرمي، فقال مالك وجماعة من العلماء: لا شيء عليه؛ لأنَّ ذلك نصٌّ في الحديث، والهدي قد بلغ محلَّه، وذلك يوم النَّحر، كما لو لم يَنْحَر المعتمر بمكَّة هديًا ساقه قبل أن يطوف لعمرته.
          واختلفوا إذا قَدَّم الحلق على الرَّمي، فقال مالك وأبو حنيفة: عليه الفدية، والحجَّة فيها أنَّه حرام عليه أن يمسَّ من شعره شيئًا، أو يلبس، أو يمسَّ طيبًا حتَّى يرمي جمرة العقبة، وقد حكم رسول الله على من حلق رأسه قبل محلِّه من ضرورةٍ بالفدية، فكيف من غير ضرورة؟ وجوَّزه الشَّافعيُّ وأحمد وإسحاق وأبو ثور، واحتجُّوا بقول النَّبي صلعم في التَّقديم والتَّأخير: (لا حَرَجَ) وسيأتي الكلام فيمن رمى جمرة العقبة بعد ما أمسى في بابه إن شاء الله. [خ¦1734]
          وتأوَّل الكوفيُّون في وجوب الدَّم فيمن قَدَّم شيئًا من نسكه أنَّ معنى قوله ◙: (لَا حَرَجَ): لا إثم؛ لأنَّه ◙ كان يعلِّمهم مناسكهم، فأخبرهم أنَّ الحرج الذي رفع عنهم هو لجهلهم لا لغير ذلك؛ لأنَّهم كانوا أعرابًا، لا على أنَّه أباح لهم ◙ التَّقديم والتَّأخير في العمد.
          وهذا ابن عبَّاس يوجب على من قَدَّم من نسكه شيئًا أو أَخَرَّه الدَّم، وهو أحد من روى الحديث عن النَّبيِّ صلعم فلم يكن معنى ذلك عنده على الإباحة، وذهب عطاء إلى أنَّ معنى قوله: (لا حَرَجَ) على العموم: لا شيء على فاعل ذلك من إثم ولا فدية.
          قال الطَّبريُّ: والدَّليل على صحَّة هذا أنَّ النَّبيَّ صلعم لم يسقط عنه الحرج في ذلك إلَّا وقد أجزأه فعله، ولو لم يكن عنده مجزئًا لأمره إمَّا بالإعادة، وإمَّا ببدلٍ منه من فديةٍ وجزاءٍ، ولم يقل له: (لا حَرَجَ)؛ لأنَّ الفدية إنَّما تلزم الحاجَّ للحرج الذي يأتيه، فعلم بذلك أنَّ من قَدَّم شيئًا من نسكه، فدخل وقته قبل شيءٍ منه وأجزأه أنَّه لا يلزمه شيءٌ.
          فإن ظنَّ ظانٌّ أن في قول الرَّجل للنَّبيِّ ◙: (نَحرْتُ قَبلَ أنْ أَرمِيَ وَلَم أَشعُر)، دلالةً على أنَّه لا يجوز ذلك للعامد، وأنَّ عليه القضاء إن كان ممَّا يُقضى، أو الفدية / إن كان ممَّا لا يُقضى، فقد ظنَّ غير الصَّواب، وذلك أنَّ الجاهل والنَّاسي لا يضع الجهل والنِّسيان الحكم الذي يلزم المعتمِّد في وضع مناسك الحجِّ غير مواضعها، وإنَّما يضع الجهل والنِّسيان في ذلك: الإثم، وذلك أنَّه لا خلاف بين الجميع أنَّ جاهلًا من الحاجِّ لو جهل ما عليه، فلم يرم الجمرات حتَّى انقضت أيَّام الرَّمي، أو أنَّ ناسيًا نسي ذلك حتَّى مضت أيَّام الرَّمي، أنَّ حكمهم فيما يلزمهما من الفدية حكم المتعمِّد، وكذلك تارك الوقوف بعرفة جاهلًا أو ناسيًا حتَّى انقضى وقته، وكذلك سائر أعمال الحجِّ سواءٌ في اللَّازم من الفدية، والجاهل والعامد والنَّاسي، وإن اختلفت أحوالهم في الإثم، فكذلك مقدِّم شيء من ذلك ومؤخِّره، الجاهل والعامد فيه سواء؛ لأنَّه ◙ قال: (لا حَرَجَ) ولم يفصِّل بجوابه بين العالم والجاهل والنَّاسي.