شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب من ساق البدن معه

          ░104▒ باب: مَنْ سَاقَ الهديِ مَعَهُ
          فيه: ابْن عُمَرَ قَالَ: (تَمَتَّعَ رَسُولُ اللهِ صلعم في حَجَّةِ الْوَدَاعِ بِالْعُمْرَةِ إلى الْحَجِّ، وَأَهْدَى فَسَاقَ مَعَهُ الْهَدْيَ مِنْ ذي الْحُلَيْفَةِ، وَبَدَأَ رَسُولُ اللهِ فَأَهَلَّ بِالْعُمْرَةِ، ثُمَّ أَهَلَّ بِالْحَجِّ، فَتَمَتَّعَ النَّاسُ مَعَ النَّبيِّ صلعم بِالْعُمْرَةِ إلى الْحَجِّ، فَكَانَ مِنَ النَّاسِ مَنْ أَهْدَى، فَسَاقَ الْهَدْيَ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يُهْدِ، فَلَمَّا قَدِمَ النَّبيُّ صلعم مَكَّةَ، قَالَ لِلنَّاسِ: مَنْ كَانَ مِنْكُمْ أَهْدَى، فَإِنَّهُ لا يَحِلُّ مِن شَيْءٍ حَرُمَ مِنْهُ حَتَّى يَقْضِيَ حَجَّهُ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَهْدَى، فَلْيَطُفْ بِالْبَيْتِ وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، وْيُقَصِّرْ، وَلْيَحْلِل، ثُمَّ لِيُهِلَّ بِالْحَجِّ، فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصيامْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ في الْحَجِّ، وَسَبْعَةً إِذَا رَجَعَ إلى أَهْلِهِ، فَطَافَ حِينَ قَدِمَ مَكَّةَ، وَاسْتَلَمَ الرُّكْنَ أَوَّلَ شَيْءٍ، ثُمَّ خَبَّ ثَلاثَةَ أَطْوَافٍ وَمَشَى أَرْبَعًا، فَرَكَعَ حِينَ قَضَى طَوَافَهُ بِالْبَيْتِ عِنْدَ الْمَقَامِ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ سَلَّمَ، فَانْصَرَفَ فَأَتَى الصَّفَا، فَطَافَ بِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ سَبْعَةَ أَطْوَافٍ، ثُمَّ لَمْ يَحْلِلْ مِنْ شَيْءٍ حَرُمَ مِنْهُ حَتَّى قَضَى حَجَّهُ، وَنَحَرَ هَدْيَهُ يَوْمَ النَّحْرِ، وَأَفَاضَ فَطَافَ بِالْبَيْتِ، ثُمَّ حَلَّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ حَرُمَ مِنْهُ، وَفَعَلَ مِثْلَ مَا فَعَلَ رَسُولُ اللهِ مَنْ أَهْدَى، وَسَاقَ الْهَدْيَ مِنَ النَّاسِ). [خ¦1691] [خ¦1692]
          وقَالَ ابْن شهاب: عَنْ عُرْوَةَ، أَنَّ عَائِشَةَ أَخْبَرَتْهُ، عَنِ النَّبيِّ صلعم في تَمَتُّعِهِ بِالْعُمْرَةِ إلى الْحَجِّ، فَتَمَتَّعَ النَّاسُ مَعَهُ، مثل حديث ابْنِ عُمَرَ عَنْ رَسُولِ اللهِ صلعم.
          قال المُهَلَّب: قول ابن عمر: (تمتَّع رسول الله صلعم) يعني أنَّه أمر بذلك كما يقال: رجم رسول الله ولم يرجم، وكتب ولم يكتب، بل أمر بذلك وقوله: (في حجَّة الوداع) دليل أنَّ النَّبيَّ صلعم لم يتمتَّع في خاصَّة نفسه، بل كانت حجَّة مُفردَة، وسميَّت حجَّة الوداع، وقوله: (فبدأ رسول الله صلعم فأهَلَّ بالعمرة) إنَّما يريد أنَّه بدأ حين أمرهم بالتَّمتُّع أن يهلُّوا بالعمرة أوَّلا، ويقدِّموها قبل الحجِّ، أو ينشئوا الحجَّ بعد العمرة إذا حَلُّوا منها، وقوله: (فتمتَّع النَّاس مع النَّبيِّ صلعم) معناه: تمتَّعوا بحضرته، ومثل هذا في الكلام مشهور كما جاء في الحديث: ((أنَّ فلانًا قتل مع النَّبيِّ صلعم في بعض غزواته)) معناه: قتل بحضرة النَّبيِّ صلعم.
          وقوله للنَّاس: (من كان منكم أهدى فلا يحلُّ من شيءٍ) دليل على أنَّه ◙ لم يتمتَّع؛ لأنَّه ساق الهدي، ولم يُحلَّ كما حلَّ من لم يسق الهدي، وما في آخر الحديث من تعليم النَّاس يفسِّر ما في أوَّله من إشكال.
          قوله: (أنَّه تمتَّع) لأنَّ المفسَّر يقضي على المجمل، وقد صحَّ عن ابن عمر أنَّه رَدَّ قول أنس: ((أنَّ النَّبيَّ صلعم تمتَّع)) وقال: ((أهلَّ النَّبيَّ صلعم بالحجِّ وأهللنا به، فلما قدَّمنا مكَّة، قال: من لم يكن معه هدي فليجعلها عَمْرة، وكان مع النَّبيِّ صلعم هدي)) ذكره البخاريُّ عن مُسَدَّد في كتاب المغازي، وقد ذكرناه في باب: التَّمتُّع والقران والإفراد وفسخ الحجِّ، فكيف ينكر ابن عمر على أنس أنَّ النَّبيَّ صلعم أهل بعمرة وحجَّة؟ ! هذا ما لا يتوهَّمه عاقل، فصحَّ أنَّ تأويل قول ابن عمر في هذا الباب: (تمتَّع رسول الله) أنَّه أمر بذلك، لا أنَّه فعله ◙ في خاصَّة نفسه، وهذا التَّأويل ينفي التَّناقض عن الخبرين، ويجمع بين المتضادَّين.
          وأمَّا قوله في حديث عروة: أنَّ عائشة أخبرته عن النَّبيِّ صلعم في تمتُّعه بالعمرة إلى الحجِّ بمثل حديث سالم عن أبيه، فنعم هو مثله في الوهم؛ لأنَّ أحاديث عائشة كلَّها من رواية عروة والأسود والقاسم وعمرة مسقطة لهذا الوهم؛ لأنَّهم يروون عنها أنَّها قالت: ((خرجنا مع النَّبيِّ صلعم ولا نرى إلَّا أنَّه الحجُّ)) مُخالفةً لرواية ابن شهاب عن عروة، عن عائشة(1) / في تمتُّعه بالعمرة التي في آخر هذا الباب، وموافقةً لرواية الجماعة عن عائشة، وأمَّا قوله في التَّرجمة: باب من ساق البدن معه فإنَّما أراد أن يعرف أنَّ السُّنَّة في الهدي أن يساق من الحلِّ إلى الحرم.
          واختلف العلماء في ذلك. فقال مالك: من اشترى هَدْيَهُ بمكَّة أو بمنى، ونحره ولم يقف به بعرفة في الحلِّ فعليه بَدَلُه، وهو مذهب ابن عمر وسعيد بن جبير، وبه قال اللَّيث، وروي عن القاسم أنَّه أجازه إن لم يوقف به بعرفة، وقاله أبو حنيفة والثَّوريُّ والشَّافعيُّ وأبو ثور، قال الشَّافعيُّ: وَقْفُ الهدي بعرفة سنَّة لمن شاء إذا لم يسقه من الحلِّ. وقال أبو حنيفة: ليس بسنَّة؛ لأنَّ النَّبيَّ صلعم إنَّما ساق الهدي من الحلِّ؛ لأنَّ مسكنه كان خارج الحرم، والحجَّة لمالك أنَّ النَّبيَّ صلعم ساق الهدي من الحلِّ إلى الحرم، وقال: ((خذوا عنِّي مناسكَكم)). وأفعاله على الوجوب.


[1] زاد في (ص): ((أن)) والأولى حذفها.