شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب الجمع بين الصلاتين بعرفة

          ░89▒ باب: الْجَمْعِ بَيْنَ الصَّلاتَيْنِ بِعَرَفَةَ
          وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ إِذَا فَاتَتْهُ الصَّلاةُ مَعَ الإمَامِ جَمَعَ بَيْنَهُمَا.
          فيه: سَالِمٌ: (أَنَّ الْحَجَّاجَ حين نَزَلَ بِابْنِ الزُّبَيْرِ، سَأَلَ عبدَ اللهِ كَيْفَ نصْنَعُ في الْمَوْقِفِ يَوْمَ عَرَفَةَ؟ فَقَالَ سَالِمٌ: إِنْ كُنْتَ تُرِيدُ السُّنَّةَ، فَهَجِّرْ بِالصَّلاةِ يَوْمَ عَرَفَةَ، فَقَالَ عَبدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ: صَدَقَ، إِنَّهُمْ كَانُوا يَجْمَعُونَ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ في السُّنَّةِ). [خ¦1662]
          قال المُهَلَّب: إنَّما كان جمع الصَّلاتين في أوَّل الوقت لاشتراك الوقتين من أوَّل الزَّوال إلى غروب الشَّمس في أصل السُّنَّة، وبمفهوم كتاب الله ليجعلوا الوقوف وينفردوا فيه الدُّعاء؛ لأنَّه موقف يقصد إليه من أطراف الأرض، فكأنَّهم أرادوا الاستكثار من الدُّعاء في بقيَّة النَّهار؛ لأنَّهم يدفعون من عرفة إلى المزدلفة عند سقوط الشَّمس.
          واختلفوا في الوقت الذي يُؤَذِّن فيه المؤذِّن بعرفة للظُّهر والعصر، واختلف قول مالك في ذلك، فحكى ابن نافع عنه أنَّه قال: الأذان بعرفة بعد جلوس الإمام للخطبة، وحكى آخر عنه أنَّه يؤذِّن بعدما يخطب الإمام صدرًا من خطبته، حتَّى يفرغ من خطبته مع فراغ المؤذِّن ويقيم، ونحوه قال الشَّافعيُّ، قال: يأتي الإمام المسجد إذا زالت الشَّمس فيجلس على المنبر فيخطب الخطبة الأولى، فإذا خطب أخذ المؤذِّنون في الأذان، وأخذ هو في الكلام وخفَّف الكلام الآخر حتَّى ينزل بقدر فراغ المؤذِّن من الأذان ويقيم.
          واختلفوا في الأذان والإقامة لهما، فقال مالك: يصلِّيهما بأذانين وإقامتين. وقال أبو حنيفة والشَّافعيُّ: يصلِّيهما بأذان واحد وإقامتين، وهو قول أبي ثور، وقال أحمد وإسحاق: يجمع بينهما بإقامةٍ إقامةٍ أو أذانٍ وإقامتين(1) إن شاء. قال الطَّبريُّ: وجائز العمل في ذلك بكلِّ ما جاءت به الآثار.
          واختلفوا فيمن فاتته الصَّلاة بعرفة مع الإمام، فكان ابن عمر يجمع بينهما، وهو قول عطاءٍ ومالكٍ وأحمد وإسحاق وأبي ثورٍ، وحكاه أبو ثورٍ عن يعقوب ومحمَّدٍ والشَّافعيِّ، وقال النَّخَعِيُّ وأبو حنيفة والثَّوريُّ: إذا فاتته مع الإمام صلَّى كلَّ صلاة لوقتها، ولا يجوز له الجمع إلَّا مع الإمام؛ لأنَّ النَّبيَّ صلعم بَيَّنَ أوقات الصلوات، فلا يجوز الخروج عن وقتها إلَّا بدلالةٍ، وقد قامت الدَّلالة على أنَّه جمع بين الظُّهر والعصر بعرفة، فلا يجوز الجمع إلَّا بإمامٍكما فعل النَّبيُّ صلعم.
          قال المؤلِّف: ووجه الدَّلالة على الكوفيِّين من حديث ابن عمر قول سالم للحجَّاج: إن كنت تريد السُّنَّة فهجر بالصَّلاة يوم عرفة. وهذا خطاب يتوجَّه إلى كلِّ أحد مأمومًا كان أو منفردًا أنَّ سنَّة الصَّلاة ذلك الوقت، وكذلك قول ابن عمر: ((كانوا يجمعون بينهما في السُّنَّة)) لفظ عامٌّ يدخل فيه كلُّ مصلٍّ، فمن زعم أنَّه لبعض المصلِّين فعليه الدَّليل.
          وقال الطَّحاويُّ: قد روي عن ابن عمر وعائشة مثل قول أبي يوسف ومحمَّد من غير خلاف من الصَّحابة.
          وقال ابن القصَّار: وقول الكوفيِّين ليس بشيء لقول الرَّسول: ((صلُّوا كما رأيتموني أصلِّي)). وهذا خطاب لكلِّ أحد في نفسه أن يصلِّي الصَّلاتين في وقت أحدهما بعرفة كما فعل النَّبيُّ صلعم؛ لأنَّ الخطاب إنَّما يتوجَّه إلى هيئة الصَّلاة ووقتها لا إلى الإمامة. واتَّفق مالك وأبو حنيفة والشَّافعيُّ على أنَّه إذا وافق يوم عرفة يوم الجمعة لم يصلِّ بهم الإمام الجمعة، وكذلك قال الطَّحاويُّ، قال أبو حنيفة وأبو يوسف: يُجَمِّعُ بمنًى من له ولاية الصَّلاة هناك، وقال مالك ومحمَّد والشَّافعيُّ لا يجمِّع وإنَّما يصلِّي بعرفة الظُّهر ركعتين لا يجهر فيهما بالقراءة، هذا إذا كان الإمام من غير أهل عرفة. وقال أبو يوسف: يصلِّي الجمعة بعرفة. وسأل أبو يوسف مالكًا عن هذه المسألة بحضرة الرَّشيد فقال مالك: سقَّاياتنا بالمدينة يعلمون ألَّا جمعة بعرفة، وعلى هذا أهل الحرمين: مكَّة والمدينة، وهم أعلم بذلك من غيرهم.
          وقد جمع الرَّسول صلعم بين الصَّلاتين بعرفة وصادف ذلك يوم جمعة، ولم ينقل أنَّه جهر بالقراءة، فدلَّ أنَّه صلَّى الظُّهر بغير جهر، ولو جهر لنقل، وأيضًا فإنَّ من شرط الجمعة الاستيطان، وليست عرفة بموطن لأهل مكَّة، فلم يجز لهم أن يصلُّوا الجمعة، وروى ابن وهب عن مالك أنَّه إذا وافق يوم جمعة يوم التَّروية أو يوم عرفة أو يوم النَّحر أو أيَّام التَّشريق قال: لا جمعة عليهم، من كان من أهل مكَّة أو من أهل الآفاق، قال: ولا صلاة عيد يوم النَّحر بمنى.


[1] في (ص): ((إقامة إقامة وأذان)) والمثبت من المطبوع.