شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب من اشترى الهدي من الطريق

          ░105▒ بَاب: مَنِ اشْتَرَى الْهَدْيَ مِنَ الطَّرِيقِ
          فيه: عبد الله بْنُ عبد الله بْنِ عُمَرَ، أنَّهُ قَالَ لأبِيهِ: (أَقِمْ فَإِنِّي لا أيْتَمِنُهَا(1) أَنْ تصَدَّ عَنِ الْبَيْتِ، قَالَ: إِذًا أَفْعَلُ كَمَا فَعَلَ رَسُولُ اللهِ، وَقَالَ: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ في رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}[الأحزاب:21]فَأَنَا أُشْهِدُكُمْ أَنِّي قَدْ أَوْجَبْتُ على نَفْسِي الْعُمْرَةَ، فَأَهَلَّ بِالْعُمْرَةِ مِنَ الدَّارِ، قَالَ: ثُمَّ خَرَجَ حَتَّى إِذَا كَانَ بِالْبَيْدَاءِ أَهَلَّ بِالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، وَقَالَ: مَا شَأْنُ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ إِلَّا وَاحِدٌ، ثُمَّ اشْتَرَى الْهَدْيَ مِنْ قُدَيْدٍ، ثُمَّ قَدِمَ فَطَافَ لَهُمَا طَوَافًا وَاحِدًا، فَلَمْ يَحِلَّ حَتَّى حَلَّ مِنْهُمَا جَمِيعًا). [خ¦1693]
          قوله: (إِذًا أَفْعَلُ كَمَا فَعَلَ رَسُولُ اللهِ صلعم) يعني: من الإحلال حين صُدَّ بالحديبية على ما يأتي ذكره في باب: الحصر بَعْدُ إن شاء الله، [خ¦1806] ولم يُصدَّ ابن عمر وأَهَلَّ بعمرة من المدينة، فلمَّا خرج إلى الميقات أردف الحجَّ على العمرة وقال: (ما شأنَّهما إلَّا واحِدٌ) يعني في العمل، لأنَّ القارن لا يطوف عنده إلَّا طوافًا واحدًا وسعيًا واحدًا.
          وأجمع العلماء أنَّ من أَهَلَّ بعمرة في أشهر الحجِّ أنَّ له أن يدخل عليها الحجَّ ما لم يفسخ الطَّواف بالبيت، والحجَّةُ لهم أنَّ أصحاب النَّبيِّ صلعم أهلُّوا بعمرة في حجَّة الوداع، ثمَّ قال لهم رسول الله: ((من كان معه هدي فليهلَّ بالحجِّ مع العمرة، ثمَّ لا يحلَّ حتَّى يحلَّ منهما جميعًا)). وبهذا احتجَّ مالك في «الموطأ».
          واختلفوا في إدخال الحجِّ على العمرة إذا افتتح الطَّواف، فقال مالك: يلزمه ذلك ويصير قارنًا، وحكى أبو ثور أنَّه قول الكوفيِّين، وقال الشَّافعيُّ: لا يكون قارنًا، وذكر أنَّه قول عطاء، وبه قال أبو ثور.
          وأمَّا إدخال العمرة على الحجِّ، فمنع منه مالك، وهو قول إسحاق وأبي ثور، وأجازه الكوفيُّون وقالوا: يصير قارنًا، وقد أساء فيما فعل، واختلف قول الشَّافعيِّ على القولين، وإنَّما أجاز مالك إرداف الحجِّ على العمرة، ولم يُجز إرداف العمرة على الحجِّ؛ لأنَّ عمل الحجَّ يستغرق عمل العمرة ويزيد عليها، فإذا أدخل العمرة على الحجِّ فلم يأت بزيادة في العمل، ولا أفاد فائدة، فلم يكن لإدخالهما على الحجِّ معنى، والقياس عند أبي حنيفة لا يمنع إدخال عَمْرة على حجَّة، ومن أصله أنَّ على القارن طوافين وسعيين.
          وأمَّا قول البخاريِّ: باب من اشترى الهدي من الطَّريق، فإنَّما أراد أن يبيِّن مذهب ابن عمر أنَّ الهدي ما أدخل من الحلِّ إلى الحرم؛ لأنَّ قُديَدًا حيث اشتراه ابن عمر من الحلِّ في نصف طريق مكَّة، وقد روى مالك عن نافع، عن ابن عمر أنَّه كان يقول: الهدي ما قُلِّد وأشعر، ووقف به بعرفة، وكذلك فعل النَّبيُّ صلعم فلا معنى لقول من خالف هذا.
          وقوله: (لَا أَيْتَمِنُها) قال سيبويه: من العرب من يكسر زوائد كلِّ فعل مضارع ماضيه فعل، ومستقبله يفعل، إلى الياء، فيقولون: أنا أعلم، وأنت تعلم، ونحن نعلم، وهو يعلم بفتح الياء؛ كراهية الكسرة فيها لثقلها، وعلى هذا جاء: (لَا أَيْتَمِنُها) لأنَّهم يقولون: أيمن.


[1] في المطبوع والصحيح: ((أيمُنها)) وكذا في الموضعين بعده.