شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب الوقوف بعرفة

          ░91▒ باب: الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ
          فيه: جُبَيْرُ بْنُ مُطْعِمٍ، عَنْ أَبِيهِ: (كُنتُ أَطلُبُ بَعِيرًا لي، يَوْمَ عَرَفَةَ كُنتٌ أَضلَلتُهُ، فَرَأَيْتُ النَّبيَّ صلعم وَاقِفًا بِعَرَفَةَ، فَقُلْتُ: هَذَا وَاللهِ مِنَ الْحُمْسِ، فَمَا شَأْنُهُ هَاهُنَا). [خ¦1664]
          وقَالَ عُرْوَةُ: كَانَ النَّاسُ يَطُوفُونَ في الْجَاهِلِيَّةِ عُرَاةً إِلَّا الْحُمْسَ، وَالْحُمْسُ قُرَيْشٌ وَمَا وَلَدَتْ، وَكَانَتِ الْحُمْسُ يَحْتَسِبُونَ على النَّاسِ، يُعْطِي الرَّجُلُ الرَّجُلَ الثِّيَابَ يَطُوفُ فِيهَا، وَتُعْطِي الْمَرْأَةُ الْمَرْأَةَ الثِّيَابَ تَطُوفُ فِيهَا، فَمَنْ لَمْ يُعْطِهِ الْحُمْسُ ثيابًا، طَافَ بِالْبَيْتِ عُرْيَانًا، وَكَانَ يُفِيضُ جَمَيعُ النَّاسِ مِنْ عَرَفَاتٍ، وَيُفِيضُ الْحُمْسُ مِنْ جَمْعٍ، قَالَ: وأَخبرَنِي أبي عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ هَذِهِ الآيَةَ نَزَلَتْ في الْحُمْسِ: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ}[البقرة:199]، قَالَ: كَانُوا يُفِيضُونَ مِنْ جَمْعٍ، فَدُفِعُوا إلى عَرَفَاتٍ. [خ¦1665]
          قال المُهَلَّب: إنَّما كان وقوف قريش وهم الحُمس عند المشعر الحرام من أجل أنَّها كانت عزَّتها في الجاهليَّة بالحرم، وسكناها فيه، وتقول: نحن جيران الله، فكانوا لا يرون الخروج عنه إلى الحلِّ عند وقوفهم في الحجِّ، ويقولون: لا نفارق عزَّنا، وما حرَّم الله به أموالنا ودماءنا، وكانت طوائف العرب تقف في موقف إبراهيم ◙ من عرفة، وكان وقوف النَّبي صلعم مع طوائف العرب بعرفة ليدعوهم إلى الإسلام وما افترض الله عليه من تبليغ الدَّعوة، وإفشاء الرِّسالة، وأمر النَّاس كلَّهم بالإفاضة من حيث أفاض النَّاس من عرفة.
          وقال إسماعيل بن إسحاق: قال الضَّحَّاك: النَّاس في هذه الآية هو إبراهيم ◙. فقال الطَّحاويُّ: قال تعالى: {فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} الآية[البقرة:198]. فكان ظاهر الآية على أنَّ الإفاضة الأولى من عرفة، وعلى أنَّ الإفاضة الثَّانية من المشعر الحرام؛ لأنَّه قال تعالى: {فَاذْكُرُوا اللهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} إلى {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} غير أنَّا وجدنا أهل العلم تأوَّلوا ذلك على إفاضة واحدة، وكانت هذه الآية عندهم من المحكم المتَّفق على المراد به، وجعلوا(1) قوله: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ}[البقرة:199]في معنى وأفيضوا، وقالوا: تجعل ثمَّ في موضع الواو، كما قال الله تعالى: {وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الذي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللهُ شَهِيدٌ على مَا يَفْعَلُونَ}[يونس:46]فكان قوله: {ثُمَّ اللهُ شَهِيدٌ على مَا يَفْعَلُونَ} في معنى: والله شهيد، وفي قوله: {فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} الآية، دليل على أنَّه قد أمرهم بوقوف عرفة قبل إفاضتهم منها.
          غير أنَّا لم نجده تعالى ذكر لنا ابتداء ذلك الوقوف أيَّ وقت هو في كتابه، وبيَّنه لنا فعل رسوله في حديث جابر وحديث ابن عمر، حين قال للحجَّاج يوم عرفة حين زالت الشَّمس: (الرَّواح إنْ كُنتَ تريد السُّنَّةَ). فدلَّ أنَّ دفع رسول الله إلى عرفة كان بعد زوال الشَّمس يوم عرفة.
          قال المؤلِّف: ولم يختلفوا أنَّ النَّبيَّ صلعم صلى الظُّهر والعصر جميعًا بعرفة، ثمَّ ارتفع فوقف بجبالها داعيًا الله إلى غروب الشَّمس، فلمَّا غربت دفع منها إلى المزدلفة.
          واختلفوا إذا دفع من عرفة قبل غروب الشَّمس ولم يقف فيها ليلًا، فذهب مالك إلى أنَّ الاعتماد في الوقوف بعرفة على اللَّيل من ليلة النَّحر، والنَّهار من يوم عرفة تَبَعٌ، فإن وقف جزءًا من النَّهار وحده ودفع قبل غروب الشَّمس لم تجزئه، وإن وقف جزءًا من اللَّيل _أيَّ جزء كان_ قبل طلوع الفجر من يوم النَّحر أجزأه، وأخذ في ذلك بما رواه عن نافع، عن ابن عمر أنَّه قال: من لم يقف بعرفة ليلة المزدلفة قبل أن يطلع الفجر فقد فاته الحجُّ، وعن عروة بن الزُّبير مثله.
          وقال أبو حنيفة والثَّوريُّ والشَّافعيُّ: الاعتماد على النَّهار من يوم عرفة من وقت الزَّوال، واللَّيل كلُّه تبع، فإن وقف جزءًا من النَّهار أجزأه، وإن وقف جزءًا من اللَّيل أجزأه إلَّا أنَّهم يقولون: إن وقف جزءًا من النَّهار بعد الزَّوال دون اللَّيل كان عليه دم، وإن وقف جزءًا / من اللَّيل دون النَّهار لم يجب عليه دم، وأخذوا بحديث عروة بن مُضرَِّس، إلَّا في إيجاب الدَّم لمن وقف نهارًا دون اللَّيل، وتفريقهم في وقوف النَّهار بين بعد الزَّوال وقبله، فإنَّه ليس في حديث عروة بن مُضَرِّس، وذهب أحمد بن حنبل إلى أنَّ وقت الوقوف من حين طلوع الفجر من يوم عرفة إلى طلوع الفجر من ليلة النَّحر، فسوى بين أجزاء النَّهار وأجزاء اللَّيل، فأخذ في ذلك بنصِّ حديث عروة بن مُضَرِّس قال: أتيت النَّبيَّ صلعم وهو بمزدلفة فقلت: يا رسول الله، إنِّي أكللت ناقتي وأتعبت نفسي، وما من جبل إلَّا وقفت عليه، فهل لي من حجٍّ؟ فقال ◙: ((من صلَّى معنا هذه الصَّلاة، يعني: بجمع، وكان قد وقف بعرفة ليلًا أو نهارًا فقد تمَّ حجُّه)). فلم يفرِّق بين اللَّيل والنَّهار، رواه شعبة عن عبد الله بن أبي السَّفَر، عن الشَّعبيِّ سمعته يقول: حدَّثني عروة بن مُضَرِّس، عن النَّبيِّ صلعم.
          وقال ابن القصَّار: أمَّا قوله في حديث عروة: ((وكان قد وقف بعرفة ليلًا أو نهارًا)) فنحن نعلم أنَّه ◙ وقف وقفة واحدة بعرفة جمع فيها بين اللَّيل والنَّهار، فصار معناه: من ليل ونهار، واستفدنا من فعله ◙ أنَّ المقصود آخر النَّهار، وهو الوقت الذي وقفه، وعقلنا بذلك أنَّ المراد جزء من النَّهار مع جزء من اللَّيل؛ لأنَّه لم يقتصر ◙ على جزء من النَّهار دون اللَّيل، ولو تحرَّر هذا من فعله ◙ لجاز أن تكون أو بمعنى: الواو، كقوله تعالى: {وَلاَ تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا}[الإنسان:24]معناه: وكفورًا، فإن قيل: وأنتم لا توجبون الجمع بين النَّهار واللَّيل في الوقوف، قيل: لمَّا قال: ((فقد تمَّ حجُّه)) علمنا أنَّ التَّمام يقتضي الكمال والفضل، فيجمع فيه بين السُّنَّة والفرض، والفرض هو اللَّيل؛ لأنَّه هو انتهاء الوقوف، فهو الوقت المقصود، وهو أخصُّ به من النَّهار؛ لأنَّه لو انفرد وقوفه في هذا الجزء لأجزأه بإجماع، ولو وقف هذا القدر من النَّهار لكان فيه خلاف ووجب عليه الدَّم، فكيف يكون النَّهار أخصَّ به من اللَّيل.
          والحُمْسُ: قريش وما ولدت من العرب، والتَّحمُّس: التَّشدُّد، وذلك أنَّ قريشًا أحدثت هذا الدَّين فقالت: لا نطوف بالبيت عراة، ولا تسلي نساؤنا سمنًا، ولا تغزل وبرًا، ولا تخرج إلى عرفات، ولا نزايل حرمنا، ولا نعظِّم غيره، ولا نطوف بين الصَّفا والمروة، وكانوا يقفون بالمزدلفة، ومن سواهم من العرب يقال لهم: الحلَّة، كانوا إذا حجُّوا طافوا بالبيت عراة، ورموا ثيابهم التي قدموا فيها وقالوا: نكرم البيت أن نطوف به في ثيابنا التي جرحنا فيها الآثام، فما طرحوا من ثوب لم يمسه أحد، وسمِّي: النَّسيُ والنَّفيُ(2) والحريم، ذكره الكلبيُّ.


[1] قوله: ((أهل العلم تأولوا ذلك.... المراد به، وجعلوا)) زيادة من المطبوع.
[2] صورتها في (ص): ((الفا)) وصوبت في الحاشية إلى المثبت وفي المطبوع: ((اللقي)).