شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب الإهلال عند مسجد ذي الحليفة

          ░20▒ باب: الإهْلالِ عِنْدَ مَسْجِدِ ذي الْحُلَيْفَةِ.
          فيه: ابْنُ عُمَرَ: (مَا أَهَلَّ رَسُولُ اللهِ صلعم إِلَّا مِنْ عِنْدِ الْمَسْجِدِ، يعني مَسْجِدَ ذي الْحُلَيْفَةِ). [خ¦1541]
          اختلف العلماء في الموضع(1) الَّذي أحرم منه رسول الله صلعم، فقال قوم: إنَّه أهلَّ من مسجد ذي الحليفة، وقال آخرون: لم يهلَّ إلَّا بعد أن استوت به راحلته بعد خروجه من المسجد، روي ذلك عن ابن عمر أيضًا، وعن أنس وابن عبَّاسٍ وجابر، وقال آخرون: بل أحرم حين أطلَّ على البيداء.
          قال الطَّحاويُّ: وقد قال(2) من خالفهم: قد يجوز أن يكون(3) ◙ أحرم منها، لا لأنَّه قصد أن يكون إحرامه منها أفضل(4) في الإحرام منها على الإحرام ممَّا سواها، وقد رأيناه فعل في حجَّته أشياء في مواضع لا لفضلها، كنزوله ◙ بالمحصَّب من منى، لم يكن ذلك لأنَّه سنَّة، ولكن لمعنى آخر(5)، فلمَّا حَصَّب رسول الله صلعم ولم يكن ذلك لأنَّه سنَّةٌ، فكذلك أحرم حين صار على البيداء لا لأنَّ ذلك سنَّة، وقد أنكر قوم أن يكون رسول الله صلعم أحرم من البيداء، روي ذلك(6) عن موسى بن عقبة، عن سالم، عن أبيه أنَّه قال: ((بيداؤكُم هذهِ الَّتي تكذِبُون على رسولِ اللهِ صلعم فيها، ما أهلَّ رسولُ الله صلعم إلَّا مِنْ مسجدِ ذِي الحليفةِ، قالوا: وإنَّما كان ذلك بعدَما ركبَ راحلتَهُ)).
          واحتجُّوا بما رواه ابن(7) أبي ذئب عن الزُّهري عن نافع عن ابن عمر عن النَّبيِّ صلعم: ((أنَّه كانَ يُهلُّ إذا استوَتْ بِهِ راحلتُهُ قائمِةً)). وكان ابن عمر يفعله، قالوا: وينبغي أن يكون ذلك بعدما تنبعث به راحلته، واحتجُّوا بما رواه مالك عن سعيد المقبريِّ، عن عبيد(8) بن جُريج، عن ابن عمر قال: ((لم أرَ رسولَ اللهِ صلعم يُهلُّ حتَّى تنبعثَ بهِ راحلتُهُ)).
          فلمَّا اختلفوا في ذلك أردنا أن ننظر من أين جاء اختلافهم، فذكر ابن إسحاق قال: حدَّثني خُصَيف، عن سعيد بن جبير قال: قلت لابن عبَّاسٍ: عجبت لاختلاف أصحاب(9) رسول الله صلعم في إهلاله(10)، فقال: إنِّي لأعلم النَّاس بذاك(11)، خرج رسول الله صلعم حاجًّا، فلمَّا صلَّى في مسجد ذي الحليفة أهلَّ بالحجِّ، فسمع ذلك قوم(12) فحفظوا عنه، ثمَّ ركب فلمَّا استقلَّت به ناقته أَهَلَّ، وأدرك ذلك منه أقوام لم يشهدوه في المرَّة الأولى لأنَّ النَّاس قد(13) كانوا يأتون(14) أرسالًا، فسمعوه حين استقلَّت به ناقته يُهلُّ، ثمَّ مضى رسول الله صلعم فلمَّا وقف على شرف البيداء أَهَلَّ، وأدرك ذلك منه أقوام لم يشهدوه في المرَّتين فنقل كلُّ واحدٍ منهم ما سمع، فإنَّما كان إهلال رسول الله صلعم في مصلَّاه حين فرغ من صلاته. فبيَّن ابن عبَّاسٍ الوجه الَّذي منه جاء اختلافهم وأنَّ إهلال النَّبيِّ صلعم(15) الَّذي ابتدأ الحجَّ به كان في مصلَّاه، فينبغي لمن أراد الإحرام أن يصلِّي ركعتين ثمَّ يحرم في دبرهما كما فعل النَّبيُّ ◙، وهو قول جمهور العلماء.
          قال ابن المنذر: وإن أحرم من غير صلاةٍ تتقدَّم إحرامَه أجزأه لأمر النَّبيِّ صلعم أسماء بنت عُمَيس وهي نفساء بالاغتسال والإحرام، والنُّفساء غير طاهرٍ، ومحال أن تصلِّي في تلك الحال، وقد أخبر(16) صلعم أنَّه لا تُقبل صلاةٌ بغير طهورٍ، وسأذكر في باب من أهلَّ حين استوت به راحلته، [خ¦1552] وجهًا آخر غير ما قاله ابن عبَّاس في معنى اختلاف الرِّوايات في ابتداء إهلال النَّبيِّ صلعم عن سعد بن أبي وقَّاصٍ إن شاء الله.


[1] في (م): ((اختلفت الآثار في الموضع)).
[2] في (م): ((وقال)).
[3] زاد في (م): ((النبي)).
[4] في (م): ((لفضل)).
[5] زاد في (م): ((قال المؤلف: سأذكر المعنى في باب المحصب بعد هذا إن شاء الله تعالى. قال الطحاوي)).
[6] في (م): ((روى مالك)).
[7] قوله: ((ابن)) زيادة من (م).
[8] قوله: ((المقبري عن عبيد بن)) زيادة من (م).
[9] قوله: ((أصحاب)) ليس في (م).
[10] زاد في (م): ((في حجه)).
[11] في (م): ((بذلك)).
[12] في (م): ((أقوامٌ)).
[13] قوله: ((قد)) ليس في (م).
[14] قوله: ((يأتون)) ليس في (م).
[15] قوله: ((في مصلاه حين فرغ من...... إهلال النبي)) زيادة من (م).
[16] زاد في (م): ((النبي)).