شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب ما جاء في السعي بين الصفا والمروة

          ░80▒ باب: مَا جَاءَ في السَّعْيِ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ.
          وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: السَّعْيُ مِنْ دَارِ بَنِي عَبَّادٍ إلى زُقَاقِ بَنِي أبي حُسَيْنٍ.
          فيه: ابْنُ عُمَرَ: (كَانَ(1) صلعم إِذَا طَافَ الطَّوَافَ الأوَّلَ، خَبَّ ثَلاثًا وَمَشَى أَرْبَعًا، وَكَانَ يَسْعَى بَطْنَ الْمَسِيلِ إِذَا طَافَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، فَقُلْتُ لِنَافِعٍ: أَكَانَ عبد اللهِ يَمْشِي إِذَا بَلَغَ الرُّكْنَ الْيَمَانِيَ؟ قَالَ: لا، إِلَّا أَنْ يُزَاحَمَ على الرُّكْنِ، فَإِنَّهُ كَانَ لا يَدَعُهُ حَتَّى يَسْتَلِمَهُ). [خ¦1644]
          (وسُئل ابْنُ عُمَرَ، عَنْ رَجُلٍ طَافَ بِالْبَيْتِ في عُمْرَتِهِ، وَلَمْ يَطُفْ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، أَيَأْتِي امْرَأَتَهُ؟ قَالَ(2): قَدِمَ النَّبيُّ صلعم فَطَافَ بِالْبَيْتِ سَبْعًا، وَصَلَّى خَلْفَ الْمَقَامِ(3) رَكْعَتَيْنِ، وَطَافَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ سَبْعًا: {وقَدْ كَانَ لَكُمْ في رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} وَقَالَ جَابِرَ كَذَلِكَ، وَقَالَ أيضًا ابْنُ عُمَر: إنَّ النَّبيَّ صلعم سَعَى بَينَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ). [خ¦1645] [خ¦1646]
          وفيه: عَاصِمٌ قَالَ(4): قُلْتُ لأنَسِ: أَكُنْتُمْ تَكْرَهُونَ السَّعْيَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ؟ قَالَ: نَعَمْ، لأنَّهَا كَانَتْ مِنْ شَعَائِرِ الْجَاهِلِيَّةِ حَتَّى أَنْزَلَ اللهُ: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللهِ} الآية. [خ¦1647]
          وفيه: ابْنُ عَبَّاسٍ: (إِنَّمَا سَعَى الرَّسُولُ(5) صلعم بِالْبَيْتِ وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ؛ لِيُرِيَ الْمُشْرِكِينَ قُوَّتَهُ). [خ¦1649]
          قال المؤلِّف: معنى هذا الباب كالذي قبله، وفيه بيان صفة السَّعي وأنَّه شيءٌ معمولٌ به غير مرخَّصٍ فيه، ألا ترى أنَّ ابن عمر حين ذكره قال: (وَقَد كَانَ لَكُم فِي رَسُولِ اللهِ أُسوَةٌ حَسَنَةٌ) وذكر(6) / ابن عبَّاسٍ في حديث هذا الباب علَّة السَّعي في الطَّواف بالبيت وبين الصَّفا والمروة، وأنَّ(7) النَّبيَّ ◙ فعله لُيِريَ المشركين قوَّته لأنَّهم قالوا: إنَّ حُمَّى يثرب أنهكتهم، فكان ◙ يرمل في طوافه بالبيت مقابل المسجد ومقابل السُّوق موضع جلوسهم وأنديتهم، فإذا توارى عنهم مشى، ذكره أهل السِّير، وقد ذكرته في باب كيف كان بدء الرَّمَل(8)، [خ¦1602] فالسُّنَّة(9) التزام الخبِّ في الثَّلاثة أشواط في الطَّواف بالبيت تبرُّكًا بفعله ◙ وسنَّته، وإن كانت العلَّة قد ارتفعت فذلك من تعظيم شعائر الله.
          وقد ذكر البخاريُّ في كتاب الأنبياء، عن ابن عبَّاس علَّة أخرى للسَّعي والهرولة بين الصَّفا والمروة؛ فقال(10) ابن عبَّاس: ((انطلقَت(11) أمُّ إسماعيلَ إلى الصَّفا فوجدَتهُ أقربَ جبلٍ في الأرضِ إليها، فقامَت عليهِ تنظرُ هل ترى أحدًا، فلم ترَ، فهبطَت مِنَ الصَّفا حتَّى إذا بلغَتِ الواديَ رفعَت طرفَ درعِها، فسعَت سعيَ المجهودِ حتَّى جاوزَت الوادي، ثمَّ أتَت المروةَ فقامَت عليها ونظرَت هل ترى أحدًا، فلم تَرَهُ، ففعلَت ذلكَ سبعَ مرَّاتٍ، قالَ ابنُ عبَّاسٍ: قالَ النَّبيُّ صلعم: فَلِذلكَ سَعَى النَّاسُ بَينَهُما)). [خ¦3364]
          فبيَّن في هذا الحديث أنَّ سبب كونها سبعة أطوافٍ، وسبب السَّعي فيهما(12) فعل أمِّ إسماعيل(13) ♂ ذلك.
          وذكر ابن أبي شيبة(14) قال: حدَّثنا عبد الأعلى، عن الجريريِّ، عن أبي الطُّفيل قال: قلت لابن عبَّاس: ألا تحدِّثني عن الطَّواف راكبًا بين الصَّفا والمروة، فإنَّهم يزعمون أنَّه سنَّةٌ. فقال: صدقوا وكذبوا، فقلت: وما صدقوا وكذبوا؟! قال: صدقوا، إنَّ الطَّواف بين الصَّفا والمروة سنَّةٌ، وكذبوا في أنَّ الرُّكوب فيه سنَّةٌ، أتى رسول الله صلعم الصَّفا والمروة فلمَّا سمع به(15) أهل مكَّة خرجوا ينظرون إليه، حتَّى خرجت العواتق، وكانَ رسولُ الله صلعم لا يدفع أحَدًا عنه، فأكبُّوا عليه، فلمَّا رأى ذلك دعا براحلته فركب ثمَّ طاف على بعيره ليسمعوا كلامه، ولا تناله أيديهم، ويروا مكانه.
          واختلفوا في ذلك، فكانت عائشة تكره السَّعي بينهما راكبًا، وكرهه عروة بن الزُّبير، وهو قول أحمد وإسحاق، وقال أبو ثورٍ: لا يجزئه وعليه أن يعيد. وقال الكوفيُّون: إن كان بمكَّة أعاد ولا دَمَ عليه، وإن رجع إلى الكوفة فعليه دمٌ.
          ورخَّصت فيه(16) طائفةٌ، رُوي عن أنس بن مالك أنَّه طاف على حمارٍ، وعن عطاء ومجاهد مثله.
          وقال الشَّافعيُّ: يجزئه ولا إعادة عليه إن فعل، وحجَّة من أجاز ذلك فعل النَّبيِّ صلعم، وحجَّة من كرهه أنَّه ينبغي امتثال فعل أمِ إسماعيل في ذلك، وأنَّ ركوب النَّبيِّ ◙ راحلته فيه كان للعلَّة الَّتي ذكرها ابن عبَّاسٍ في الحديث.
          قال الطَّحاويُّ: وأمَا قول أنس: إنَّهم كانوا يكرهون الطَّواف بهما لأنَّهما من شعائر الجاهليَّة حتَّى نزلت الآية، فقد كان ما سواهما من الوقوف بعرفة والمزدلفة والطَّواف بالبيت من شعائر الحجِّ في الجاهليَّة أيضًا، فلمَّا جاء الإسلام ذكر(17) الله ذلك في كتابه، فصار(18) من شعائر الحجِّ في الإسلام.
          فإن قال قائل: فإنَّ الله قال بعقب قوله: {فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا}[البقرة:158]{وَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ} فدلَّ(19) أنَّ الطَّواف بهما في الحجِّ والعمرة تطوُّع، قيل له: لو كان كما وصفت لكان الطَّواف بينهما قربة، وكان للنَّاس أن يتطوَّعوا بالطَّواف بينهما، وإن لم يكونوا حاجِّين ولا معتمرين، وقد أجمع المسلمون على أنَّ الطَّواف بينهما في غير الحجِّ والعمرة ليس ممَّا يتقرَّب به العباد إلى الله ولا يتطوَّعون به، وأنَّ الطَّواف بينهما لا قربة فيه إلَّا في حجٍّ أو عَمْرةٍ(20)، فَدَلَّ ذلك على أنَّ قوله: {وَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا} لا يرجع إلى الطَّواف بين الصَّفا والمروة، وإنَّما يرجع إلى(21) قوله تعالى: {فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ}[البقرة:158]، أي من تطوَّع بحجٍّ أو عَمْرةٍ فإنَّ الله شاكرٌ عليمٌ.


[1] زاد في (م): ((النبي)).
[2] في (م): ((فقال)).
[3] قوله: ((خلف المقام)) ليس في (م).
[4] قوله: ((قال)) ليس في (م).
[5] في (م): ((النبي)).
[6] قوله: ((الطَّواف ركعتان، لا فصل بينه وبينهما، وجب...... {وَقَد كَانَ لَكُم فِي رَسُولِ اللهِ أُسوَةٌ حَسَنَةٌ} وذكر)) الورقة ليست في المخطوط (ص).
[7] في (م): ((أن)).
[8] في (م): ((كيف بدأ الرمل)).
[9] في (م): ((والسنة)).
[10] في (م): ((قال)).
[11] في (م): ((فانطلقت)).
[12] في (م): ((فيها)).
[13] صورتها في (ز) و(ص): ((فقال وإسماعيل)) والمثبت من (م).
[14] في (م): ((شيبة)) مطموسة.
[15] في (م): ((سمع به)) مطموسة.
[16] قوله: ((فيه)) زيادة من (م).
[17] في (م): ((وذكر)).
[18] في (م): ((صار)).
[19] في (م): ((على)).
[20] العبارة في (م): ((الحج أو العمرة)).
[21] في (م): ((على)).