مجمع البحرين وجواهر الحبرين

باب: لا تسبوا الدهر

          ░101▒ باب لا تسبوا الدهر
          ثنا يحيى بن بكير، إلى آخره.
          قال الخطابي: كانت الجاهلية تضيف المصاب والنوائب إلى الدهر الذي هو مر الليل والنهار. وهم في ذلك فرقتان: فرقة لا تؤمن بالله ولا تعرف إلا الدهر الليل والنهار، اللذان هما محل الحوادث وطرف لمساقط الأقدار، فتنسب المكاره إليه على أنها من فعله، ولا ترى أن لها مدبراً غيره، وهذه الفرقة هي الدهرية الذين حكى الله عنهم في قوله: {وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} [الجاثية:24]. وفرقة ثانية تعرف الخالق وتنزهه أن تنسب إليه المكاره فتضيفها إلى الدهر والزمان، وعلى هذين الوجهين كانوا يسبون الدهر ويذمونه، فيقول القائل منهم: يا خيبة الدهر ويا بؤس الدهر فقال ◙ لهم مبطلاً ذلك: ((لا يسبن أحد منكم الدهر)).
          فإن الله هو الدهر يريد والله أعلم: لا تسبوا الدهر على أنه الفاعل لهذا الصنع بكم، فإن الله هو الفاعل له، فإذا سببتم الذي أنزل بكم المكاره رجع السب إلى الله وانصرف إليه.
          ومعنى قوله: (أنا الدهر) أي: أنا ملك الدهر ومصرفه، فحذف اختصاراً للفظ واتساعاً في المعنى. وبيان هذا في حديث أبي هريرة: ((يقول الله تعالى: أنا الدهر بيدي الليل والنهار أجده وأقلبه، وأذهب بالملوك وآتي بهم)).
          قال النحاس: يجوز فيه نصب الراء من قوله: ((فإن الله هو الدهر))، والمعنى: فإن الله مقيم الدهر أي: مقيم أبداً لا يزول، ولما قال ابن الجوزي: كان أهل الجاهلية يرون أن الدهر هو مهلكهم ولا يرونها من الله، كان أبو بكر بن داود يرويه: ((أنا الدهر)) بفتح الراء منصوبة على الظرف؛ أي: أنا طول الدهر بيدي الأمر. قال: وهو باطل من ثلاثة أوجه:
          1- أنه خلاف ضبط المحدثين.
          2- أنه ورد بألفاظ صحاح تبطل تأويله، منها ما عند (خ): ((لا تقولوا: يا خيبة الدهر)).
          3- لو كان بالضم كان اسماً من أسمائه تعالى، يقتضي أن يكون علة النهي لم تذكر؛ لأنه إذا قال: ((لا تسبوا الدهر فأنا الدهر أقلب الليل والنهار)) كأنه قال: لا تسبوا [الدهر] فأنا أقلبه. وتقلبه للأشياء لا يمنع ذمها، وإنما يتوجه الأذى في قوله: ((يؤذيني ابن آدم)) على ما أشرنا إليه ولم يكن ابن داود من الحفاظ ولا من علماء النقل.
          وقال ابن حبيب وغيره: هذا الحديث مما لا ينبغي لأحد جهل وجهه؛ وذلك أن أهل الكفر بالله والزنادقة يحتجوا به على المسلمين، وتأويله عند أهل السنة ما سلف من قصدهم النسبة إلى الفاعل، والفاعل لها هو الله. فقال الله سبحانه: ((يسب بنو آدم الدهر)) أي: يسبوني، ومعنى الحديث: يظن ابن آدم أن الدهر فعل ذلك. وأنا فاعله بيدي الليل والنهار.. إلى آخره.