مجمع البحرين وجواهر الحبرين

كتاب الصلح

          ░░53▒▒ ((كتاب الصلح))
          ((باب ما جاء في الإصلاح بين الناس))
          وقوله تعالى: {لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ} [النساء:114]: الآية.
          ثم ساق حديث سهل بن سعد في خروجه ◙ وحديث معتمر: سمعت أبي قال: إن أنساً قال للنبي صلعم: لو أتيت عبد الله بن أبي، الحديث.
          وقد أخرج (م) كلاهما من حديث المعتمر، عن أبيه، عن أنس.
          قال الإسماعيلي: يقال سليمان لم يسمع هذا من أنس، وكذا قال أبو نعيم.
          أي: هذا مما لم يسمعه التيمي من أنس، والرجل الذي قال: لحمار رسول الله أطيب ريحاً منك، هو عبد الله بن رواحة.
          و((النجوى)) في الآية: السر، قاله جماعة. وقال النحاس: كل كلام تفرد به جماعة سراً كان أو جهراً فهو نجوى.
          قوله: (({إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ})) [النساء:114] يجوز أن يكون استثناء ليس من الأولى، أي: لكن من أمر بقذفه أو معروف كان في نجواه خيراً، ويجوز أن يكون المعنى: إلا نجوى من أمر بصدقة، ثم حذف.
          وقال الداودي: معناه: لا ينبغي أن يكون أكثر نجواهم إلا في هذه الخلال، ويكون أقلها فيما لا بد منه من النظر في أمر دنياهم.
          ومعنى {ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ} [البقرة:207]: لوجهه، وهو مثل قوله: ((إنما الأعمال بالنيات)) ولا شك أن الإصلاح بين الناس واجب على الأئمة، وعلى من ولاه الله أمور المسلمين، وفعله الشارع؛ لتتأسى به الأمة بعده.
          قال تعالى: {وَإِن طَائِفَتَانِ} الآية [الحجرات:9].
          وكانت الصحابة إذا التبس عليهم أمر الطائفتين ردهما إلى التأويل ولم يتبين ظلم إحداهما اعتزلوهما، ومن يتبين له أن طائفته مظلومة لم يعتزلها.
          قال المهلب: وإنما يخرج الإمام ليصلح بين الناس إذا أشكل عليهم أمرهم، وتعذر ثبوت الحقيقة عنده منهم، فحينئذ ينهض إلى الطائفتين، ويسمع من الفريقين، ومن الرجل والمرأة، ومن كافة الناس سماعاً فاشياً يدله على الحقيقة.
          هذا قول عامة العلماء، وكذلك ينهض الإمام إلى العقارات والأرضين المتشاح في قسمتها. فيعاين ذلك.
          وقال عطاء: لا يحل للإمام إذا تبين له العطاء أن يصلح بين الخصوم، وإنما يسعه ذلك في الأموال المشكلة، فإذا استنارت الحجة لأحد الخصمين على الآخر، وتبين للحاكم موضع الظالم من المظلوم، فلا يسعه أن يحملهما على الصلح، وبه قال أبو عبيد.
          وقال الشافعي: يأمرهما بالصلح، ويؤخر الحكم بينهما يوماً أو يومين؛ فإن لم يجتمعا لم يكن له ترديدهما وأنفذ الحكم بينهما.
          والحكم مثل البيان ظلم، والحبس للحكم بعد البيان ظلم.
          وقال الكوفيون: إن طمع القاضي أن يصطلح الخصمان فلا بأس أن يرددهما، ولا ينفذ الحكم بينهما لعلهما أن يصطلحا، ولا يردهم أكثر من مرة أو مرتين إن طمع في الصلح بينهم، واحتجوا بما روي عن عمر أنه قال: رددوا الخصوم حتى يصطلحوا، فإن فصل القضاء يحدث بين الناس الضغائن.
          وأما مسيره ◙ إلى عبد الله بن أبي، فإنما فعله أول قدومه المدينة ليدعو إلى الإسلام؛ إذ التبليغ فرض عليه، وكان يرجو أن يسلم من وراءه بإسلامه لرئاسته في قومه، وقد كان أهل المدينة عزموا أن يتوجوه بتاج الإمارة؛ لذلك قال سعد بن عبادة لرسول الله: أوصنع به ما صنع عن التوقف في الإسلام ما كانوا عزموا عليه / من توليته الإمارة حتى بعث الله نبيه، فأبطل الباطل، وصدق بالحق، وبلغ الدين.
          وفيه من الفقه: أن الإمام إذا مضى إلى موضع فيه أعداء له أن على المسلمين أن يمشوا معه ويحرسوه، فإن جني عليه نصروه، كما فعل عبد الله بن رواحة حين قال: والله لحمار رسول الله أطيب ريحاً منك وإن نوزع قاتلوا دونه.
          وقول أنس فبلغنا أنها نزلت {وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا} [الحجرات:9] يستحيل كما قال ابن بطال أن تكون نزلت في قصة عبد الله بن أبي، لأن أصحاب عبد الله ليسوا بمؤمنين، وقد تعصبوا له بعد الإسلام في قصة الإفك.
          وقد جاء بهذا المعنى مبيناً في هذا الحديث في كتاب الاستئذان من رواية أسامة بن زيد: قال مر رسول الله بمجلس فيه أخلاط من المشركين والمسلمين وعبدة الأوثان واليهود وفيهم عبد الله بن أبي، وأن النبي ◙، لما عرض عليهم الإيمان، قال ابن أبي: اجلس في بيتك فمن جاءك يريد الإسلام.. الحديث.
          فدل أن الآية لم تنزل في قصة ابن أبي وإنما نزلت في قوم من الأوس والخزرج اختلفوا في حد فاقتتلوا بالعصا والنعال، قاله سعيد بن جبير، والحسن، وقتادة.
          قال: ويشبه أن تكون نزلت في بني عمرو بن عوف الذين خرج إليهم رسول الله ليصلح بينهم.
          وقال مقاتل في ((تفسيره)): مر ◙ على الأنصار، وهو راكب على حماره يعفور فبال فأمسك ابن أبي بأنفه، وقال لرسول الله: خل للناس الريح من نتن هذا الحمار فشق عليه قوله، فانصرف.
          فقال ابن رواحة: ألا أراك أمسكت على أنفك من بول حماره، والله لهو أطيب من ريح عرقك، فكان بينهم ضرب بالأيدي والسعف، فرجع رسول الله إليهم فأصلح بينهم، فأنزل الله: {وَإِن طَائِفَتَانِ} الآية [الحجرات:9].
          وقال ابن عباس في ((تفسيره)) وأعان ابن أبي رجال من قومه وهم مؤمنون فاقتتلوا.
          ومن زعم أن قتالهم كان بالسيوف فقد كذب وهذا يبين لك ما استبعده ابن بطال.
          وفيه: إباحة مشي التلامذة وشيخ راكب، وقال ابن التين: ما ذكره (خ) عليه أكثر المفسرين ثم قال: وقال مجاهد: الطائفتان رجلان، والطائفة تكون رجلاً إلى ألف.
          وقوله: (({اقْتَتَلُوا})): استدعى بعضهم قتل بعض، وإنما خرج ◙ إليهم ليأتوه لكثرتهم ولقرب عهدهم بالإسلام، وليكون خروجه أعظم في نفوسهم وأقرب إلى محاسبة كل واحد منهم بنفسه.
          قال الداودي: وكان هذا قبل إسلام عبد الله بن أبي.
          وفيه: ركوبه الحمار، وكان على سبيل التيسير، ركب مرة فرساً لأبي طلحة في فزع كان بالمدينة، وركب يوم حنين بغلته ليثبت المسلمون إذا رأوه عليها، ووقف بعرفة على راحلته وسار عليها من هناك إلى منى وأتى مكة.
          قوله: ((وهي أرض سبخة)) هي بكسر الباء أي ذات سباخ، وكان عبد الله بن أبي من الخزرج، والقائل له: حمار رسول الله صلعم أطيب ريحاً منك. من الأوس وهو عبد الله بن رواحة لكنه خزرجي أيضاً، وعبارة ابن التين: قيل: إنه عبد الله بن رواحة.