مجمع البحرين وجواهر الحبرين

باب حسن الخلق والسخاء وما يكره من البخل

          ░39▒ باب حسن الخلق والسخاء
          (السخاء) ممدود: الجود، واختلف فيه هل هو مكتسب أم لا؟
          فقال ابن مسعود وغيره: هو غير مكتسب ولا يحمد عليها. وقال آخرون: هي مكتسبة ولولا ذلك ما أمر الشارع به.
          ثم قال (خ): وقال ابن عباس: كان النبي صلعم أجود الناس، إلى آخره وسلف متصلاً، ثم قال: وقال أبو ذر إلى آخره وسلف أيضاً مسنداً.
          ثم ساق ستة أحاديث:
          1- حديث أنس: كان النبي صلعم أحسن الناس، وأجود الناس، وأشجع الناس، الحديث وسلف.
          ومعنى: (لم تراعوا) لم تخافوا، من الروع، وأصله: لم تروعوا، تحركت الواو وقبلها حرف صحيح ساكن، فنقلت الحركة إليه وقلبت الواو ألفاً.
          قوله: (على فرس عري) هو بضم العين وإسكان الراء وتخفيف الياء على زنة فعل كذا في ((الصحاح)) وابن فارس. قال ابن التين: وقرأناه بكسر الراء وتخفيف الياء.
          قوله: (ما عليه سرج) أتى به على طريق البيان؛ لأن قوله: (عري) معناه: لا سرج عليه.
          وفيه: دلالة على طهارة عرق الفرس.
          قوله: (وجدناه بحرا) هو على الاتساع في الكلام؛ أي: واسع الجري.
          2- حديث جابر: ما سئل النبي صلعم عن شيء قط فقال: لا.
          3- حديث عبد الله بن عمرو: لم يكن / رسول الله صلعم فاحشاً.
          4- حديث سهل بن سعد، في الشملة.
          5- حديث أبي هريرة قال النبي صلعم: ((يتقارب الزمان)).
          6- حديث أنس: قال: خدمت النبي صلعم عشر سنين، الحديث.
          وأخرجه (م) في الفضائل، لا شك أن حسن الخلق من صفات المؤمنين والمرسلين، وكذلك السخاء من أشرف الصفات؛ لأن الله تعالى سمى نفسه بالكريم الوهاب، وأما البخل فليس من صفات الأنبياء ولا الجلة الفضلاء، ألا ترى قوله ◙ يوم حنين: ((لو كان عندي عدد ثمر تهامة نعماً لقسمته بينكم ثم لا تجدوني بخيلاً)) وقال ابن مسعود: أي داء أدوأ من البخل، وكان أبو حنيفة لا يجيز شهادة البخيل، فقيل له في ذلك، فقال: إنه تتفصى، ويحمله النقص على أن يأخذ فوق حقه.
          و(البردة) قد فسرت في الأصل بأنها شملة.
          وقال الداودي: تكون من صوف وكتان وقطن وتكون صغيرة كالمئزر وكبيرة كالرداء، وقيل لها: الشملة؛ لأنها يشتمل بها.
          قوله: (منسوج فيها حاشيتها) يعني: أنها لم تقطع من برد، ولكن فيها حاشيتها، الجوهري: الشملة: كساء يشتمل به، قال: والحاشية واحدة حواشي الثوب، وهي جوانبه. وفي ((جامع القزاز)): حاشيتا الثوب: ناحيتاه، اللتان في طرفهما الهدب.
          قوله: (يتقارب الزمان) قيل: أراد قرب الساعة، يقول: إذا كان آخر الزمان كان من علامة الساعة الهرج والشح، ونقص الآجال، (تكون السنة كالشهر، والشهر كالجمعة، والجمعة كاليوم، واليوم كالساعة، كاحتراق السعفة) وقيل: أراد قصر الأعمار. وقيل: أراد تقارب أحوال الناس في الشر والفساد. وقيل: معناه: يستوي ليله ونهاره. وقال الداودي: يقال: عند قيام الساعة تقصر ساعات النهار ويقرب النهار من الليل.
          قوله: (وينقص العلم) أي: يقل، ويقل أهله، يريد: عمل الطاعات. وقيل: ظهور الخيانة في الأمانات، والصناعات.
          قوله: (ويكثر الهرج) وهو القتل. قال الخطابي: هو بلسان الحبشية. وقال ابن فارس: إنه الفتنة والاختلاط، وقد هرج الناس يهرجون بالكسر هرجاً، وهكذا ذكر الهروي، وتأول الحديث عليه.
          وذكر الجوهري الحديث، وأنه ◙ قال: ((هو القتل)) ولا يبعد أن يسمى الشيء باسم ما يؤل إليه؛ لأن الفتنة والاختلاط يكون عنها الموت، وكلهم ضبطه بسكون الراء.
          قوله: (ويلقى الشح) أي: البخل.
          (أف): كلمة تقال [عند] تكره الشيء، وفيها لغات عديدة ذكر الجوهري منها تثليث الفاء مع التنوين وعدمه.
          إن قلت: ما وجه قوله ◙: ((خياركم أحاسنكم أخلاقاً)) وهل الأخلاق مكتسبة فيتخير العبد بها أحسنها ويترك أقبحها؟ فإن كان ذلك كذلك فما وجه قوله ◙: ((اللهم كما حسنت خلقي فحسن خلقي)) ومساءلته ما سأل ربه من ذلك بتحسين خلقه وأنت عالم أنه لا يحسنه غير ربه، فإذا كان الخلق فعلاً له لم يكن أيضاً بتحسين غيره، وفي ذلك بطلان حمد العبد عليه إن كان حسناً، وترك ذمه إن كان سيِّئاً.
          فإن قلت: ذلك كذلك قيل له: فما وجه قوله ◙: ((أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا)) و((إن الرجل ليبلغ بحسن خلقه درجة الصائم القائم)) وقد علمنا أن العبد إنما يثاب على ما / اكتسب لا على ما خلق له من أعضاء جسده. قيل: قد اختلف في ذلك، فقال بعضهم: الخلق حسنه وقبيحه جبلة في العبد كلونه وبعض أجزاء جسمه، وقد سلف ذلك.
          روي عن ابن مسعود أنه ذكر عنده رجل فذكروا من خلقه، فقال: أرأيتم لو قطعتم رأسه أكنتم تستطيعون أن تخلقون رأسه؟ قالوا: لا. قال: فلو قطعتم يده أكنتم تخلقون له يدا؟ قالوا: لا. قال: فإنكم لن تستطيعوا أن تغيروا خلقه. وقال ابن مسعود: فرغ من أربعة: الخلق والخلق والرزق والأجل.
          وقال الحسن: من أعطي حسن الصورة وخلقاً حسناً وزوجة صالحة فقد أعطي خير الدنيا والآخرة.
          واعتلوا بما رواه مرة الهمداني عن ابن مسعود، عن رسول الله قال: (([إن] الله تعالى قسم بينكم أخلاقكم كما قسم بينكم أرزاقكم)) قالوا: فهذا الحديث يبين أن الأخلاق من إعطاء الله عباده، ألا ترى تفاوتهم فيه كتفاوتهم في الجبن والشجاعة، والبخل والجود، ولو كان الخلق اكتساباً للعبد لم تختلف أحوال الناس فيه، ولكن ذلك غريزة.
          فإن قلت: فإن كان كذلك فما وجه ثواب الله على حسن الخلق إن كان غريزة؟ قيل: إنه لم يثب على خلقه ما خلق وإنما أثابه على استعماله ما خلق فيه من ذلك فيما أمره باستعماله فيه نظير الشجاعة المخلوقة فيه، وأمره باستعمالها عند لقاء عدوه، وأثابه على ذلك، فالثواب والعقاب على الطاعة والمعصية لا على ما خلق الله في العبد.
          وقال آخرون: أخلاقه حسنها وسيئها مكتسبة فيحمد على الجميل منها، ويثاب على ما كان منها طاعة، ويعاقب على ما كان منها معصية. ولولا أنها للعبد كسب لبطل الأمر به والنهي عنه.