مجمع البحرين وجواهر الحبرين

باب الرفق في الأمر كله

          ░35▒ باب الرفق في الأمر كله
          فيه حديث عائشة: دخل رهط من اليهود على رسول الله فقالوا: السام عليكم الحديث.
          وحديث أنس أن أعرابيًّا بال في المسجد، الحديث وسلف.
          ومعنى: (لا تزرموه) لا تقطعوا عليه بوله.
          وإنما منعهم منه لأنه يضر حبسه، وقيل: لئلا ينجس موضعاً آخر.
          قال الخطابي: فسروا السام في لسانهم: بالموت، كأنهم دعوا عليه بالموت. قال: وكان قتادة يرويه: السآم بالمد من السآمة والملل؛ أي: / تسأمون دينكم.
          وقيل: كانوا يعنون أماتكم الله الساعة، وما ذكره أن السام الموت فسره الزهري حديث الحبة السوداء أنها شفاء من كل داء إلا السام كما سلف في الطب، وهو كذلك في اللغة، نص عليه الجوهري وغيره.
          واختلف هل يأتي بالواو في الرد أم لا؟
          فقال ابن حبيب: لا يأتي بها؛ لأن فيها اشتراكاً، وخالفه ابن الحلاب والقاضي أبو محمد، وقيل: يقول: عليكم السلام بالكسر وقال طاوس: يرد: وعلاك السلام، أي: ارتفع، وقال النخعي: إذا كان لك عنده حاجة تبدأ بالسلام ولا ترد عليه كاملاً فضيلة، فلا يجب أن يكرم كالمسلم، وسمح بعضهم في رد السلام عليهم. واحتج بقوله: {فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ} [الزخرف:89] ولو كان كما قال لكان سلاماً بالنصب، وإنما يعني بذلك على اللفظ والحكاية، وأيضاً فإن الآية قيل: إنها منسوخة بآية القتال.
          فرع:
          اختلف هل يكنى اليهودي؟ فكرهه مالك، ورخص فيه ابن عبد الحكم(1)، واحتج بقوله ◙: ((أنزل أبا وهب)).
          وفي هذين الحديثين أدب عظيم من أدب الإسلام وحض على الرفق بالجاهل والصفح والإغضاء عنه؛ لأنه ◙ ترك مقابلة اليهود بمثل قولهم، ونهى عائشة عن الإغلاظ في ردها وقال: ((مهلاً يا عائشة)) إلى آخره.
          وإن كان الانتصار بمثل ما قوبل به المرء جائز لقوله: {وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ} [الشورى:41] الآية، فالصبر أعظم أجراً وأعلا درجة لقوله: {وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ}الآية [الشورى:43] والصبر من أخلاق النبيين والصالحين، فيجب امتثال طريقتهم والتأسي بهم.
          وكذلك رفقه ◙ بالأعرابي الجاهل البائل في المسجد وأمر أن لا يهاج حتى يفرغ من بوله رفقاً به، فدل ذلك على استعمال الرفق بالجاهل، وأنه بخلاف العالم في ترك اللوم له والتثريب عليه.


[1] في هامش المخطوط: ((أقول: وكنى الله أبا لهب)).