مجمع البحرين وجواهر الحبرين

كتاب الجهاد

          ░░56▒▒ ((كتاب الجهاد))
          لغة أصله: الجهد والمشقة؛ يقال: جهدت الرجل: بلغت مشقته، وكذلك الجهاد في الله تعالى إنما هو بذل الجهد في أعمال النفس، وتذليلها في سبل الشرع، والحمل عليها بمخالفة النفس من الركون إلى الدعة واللذات واتباع الشهوات، والجهاد باليد وبالقلب واللسان.
          والسير جمع: سيرة؛ لأنها متلقاة من سيرة رسول الله صلعم وأيامه.
          ((باب فضل الجهاد والسير))
          وقول الله تعالى: {إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ} الآية [التوبة:111].
          فيه أربعة أحاديث:
          حديث ابن مسعود وحديث ابن عباس وحديث عائشة وحديث أبي هريرة.
          هذا الباب مذكور هنا في جميع النسخ والشروح خلا ابن بطال فإنه ذكر عقب الحج والصوم قبل البيوع، ولما وصل إلى هنا وصل بكتاب الأحكام.
          وأحاديث الباب تقدمت إلا حديث أبي هريرة، وقد أخرجه (م) والأربعة.
          وأما الآية فهي تمثيل مثل {اشْتَرُوُاْ الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى} [البقرة:16] ولما جوزوا بالجنة على ذلك عبر عنه بلفظ الشراء تجوزاً.
          قوله: {فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ} [التوبة:111] فيه بشرى، وهي أن القاتل والمقتول معاً في الجنة، وقال بعض الصحابة: ما أبالي قتلت في سبيل الله أو قتلت وتلا هذه الآية، وهذا يرد على الشعبي في قوله: إن الغالب أعظم أجراً من المقتول.
          انتهى كلام ابن الملقن.
          أقول: قول الشعبي إن القاتل والمقتول في الجنة لكن الغالب أعظم درجة لا أنه يقول أن المغلوب ليس في الجنة فلو قال ذلك لكان هذا يرد قوله فيما قاله ابن الملقن أن هذا يرد قول الشعبي فيه نظر وهذا ظاهر بين انتهى.
          قال ابن الملقن: واستؤذن ◙ في السياحة فقال: ((سياحة أمتي الجهاد))، وفي رواية: ((الصوم)) قيل له سائح؛ لأنه تارك للمفطرات فهو كهو، وقيل: السائحون: المهاجرون، وقيل: طلبة العلم.
          {بِالْمَعْرُوفِ} التوحيد والإسلام.
          {الْمُنكَرِ} الشرك، أو الذين لم ينهوا عنه حتى انتهوا عنه.
          {وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللّهِ} [التوبة:112] القائمون بأمره، والعاملون بأمره ونهيه، أو بفرائض الله حلاله وحرامه، أو بشرطه في الجهاد.
          قال بعض العلماء: إذا كان الناهون عن المنكر الثلث، والعاملون له الثلثين؛ وجب على الناهين جهاد الفاعلين قياساً على أهل الكفر.
          وقال مجاهد: إنما يكون باليد واللسان لا بالسيف؛ إلا في المحاربين، وأتى بالواو في قوله: {وَالنَّاهُونَ} وما بعده؛ لأن ما بعد السبع من النعوت يأتي بالواو {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ}: المتصدقين بما وعدوا في هذه الآيات، ولما نزلت: {إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى} جاء رجل من المهاجرين؛ فقال: يا رسول الله، وإن زنا وإن سرق وإن شرب الخمر؟ فنزلت {التَّائِبُونَ}.
          وحديث ابن مسعود سلف شرحه في الصلاة، وأن اختلاف الأحاديث كان لاختلاف السائلين ومقاصدهم.
          وجمع الداودي أيضاً بأن لا اختلاف إن أوقع الصلاة في ميقاتها كان الجهاد مقدماً على بر أبويه وإن أخرها عن وقتها كان بر أبويه مقدماً على الجهاد / .
          قال الطبري: ومعنى هذا الحديث أن هذه الخصال أفضل الأعمال بعد الإيمان بالله ورسوله.
          وحديث ابن عباس: ((لا هجرة بعد الفتح)) سلف تأويله، وقال ابن التين: ((يريد)) لمن لم يكن هاجر؛ دليله الحديث الآخر: ((أذن للمهاجر أن يقيم بمكة ثلاثاً بعد الصدر)) وكذلك في حديث سعد: أخلف بعد أصحابي فقال: ((اللهم امض لأصحابي هجرتهم)).
          وقيل: كانت الهجرة:
          أحدهما: أن الآحاد من القبائل كانوا إذا أسلموا وقاموا بين ديارهم بين ظهراني قومهم وأوذوا فأمروا بالهجرة؛ ليسلم لهم دينهم.
          ثانيهما: أن أهل المدينة كانوا في قلة من العدد وضعف من القوة، فوجب على من أسلم أن يحضر النبي صلعم؛ ليستعين به في حدوث حادثة، وليتفقهوا في الدين ويعلموا قومهم عند رجوعهم، فلما فتحت مكة استغنوا عن ذلك؛ إذ كان معظم الخوف على المسلمين من أهل مكة فلما أسلموا أمر المسلمون أن يغزوا في عقر دارهم، قيل لهم: أقيموا في أوطانكم وقروا على نية الجهاد فإن فرضه غير منقطع مدى الدهر، وكان الجهاد في زمنه فرض كفاية، وقيل: فرض عين. وقيل: على الأنصار. والخلاف في كونه فرض كفاية حكاه المالكية أيضاً.
          وقال سحنون: كان في أول الإسلام فرض عين والآن هو مرغب فيه.
          وقال المهلب: كانت الهجرة فرضاً في أول الإسلام على من أسلم؛ لقلتهم وحاجتهم إلى الاجتماع والتأليف، فلما فتح الله مكة ودخل الناس في دينه أفواجاً؛ سقط فرض الهجرة وبقي فرض الجهاد والنية على من قام به، أو نزل به عدو.
          وحديث عائشة ضبطه عند أبي ذر ((لكن)) بضم الكاف على معنى ضمير جماعة النساء، وعند غيره بكسرها، ويبين الأول حديث: يأتي بعد جهادكن الحج، وقد سلف الخلف فيه.
          والمبرور: الذي لا رفث فيه ولا فسوق ولا جدال، وإنما جعل الحج أفضل للنساء من الجهاد لقلة عنائهن فيه.
          وحديث أبي هريرة فيه أن المجاهد على كل أحواله يكتب للمتعبد، فالجهاد أفضل من التنفل في الصلاة والصيام.
          وقول أبي هريرة: ((إن فرس المجاهد ليستن في طوله)) أي: ليمرح قاله ابن التين.
          وقال ابن بطال: ليأخذ في سنن على وجه واحد ماضياً، وهو يفتعل من السنن يقال: فلان سنن الريح والسيل إذا كان على جهتهما وممرهما، وأهل الحجاز يقولون: سنن بضم السين.
          والطول بكسر الطاء وفتح الواو: الحبل الذي تشد به الدابة ويمسك صاحبها بطرفه ويرسلها ترعى.
          قوله: ((دلني على عمل يعدل الجهاد قال: لا أجد)) يريد: إذا أتى المجاهد بالصلاة، انتهى كلام ابن الملقن.
          أقول: فإن قلت: قال أولا لا أحد ثم قال تسطيع إذا خرج المجاهد إلى آخره.
          قلت: ربما قاله أولاً ذلك ثم طرأ له أنه يمكن أن هذا الذي ذكره يكون معاً دلالة أو يكون ذلك بوحي أوحي إليه بعد ذلك أو يكون هذا من خصيصة هذا الرجل المقول له ذلك أو يكون هذا من باب المبالغة من تعميم أمر الجهاد فمعناه أنه لا يعادله شيء وإن أمكن أن يكون شيئاً على سبيل الفرض والإمكان فيكون القيام إلى آخره معادلة، والله أعلم.