مجمع البحرين وجواهر الحبرين

كتاب الجزية والموادعة

          ░░58▒▒ ((كتاب الجزية والموادعة))
          فيه ثلاثة أحاديث:
          حديث جابر بن زيد، وعمرو بن أوس، وحديث عمرو بن عوف الأنصاري، وحديث المعتمر بن سليمان.
          ((الجزية)): مشتقة من الجزاء على الأمان لهم وتقريرهم، فتجزئ عنه، وعبارة ((المحكم)): الجزية: خراج الأرض، والجمع: جزى، وقال أبو علي: هما واحد كالمعي والمعي لواحد الأمعاء، والجمع: جزاء، وجزية الذمي منه.
          وأما ((الموادعة)): فإن أراد بها عقد الذمة لهم بأخذ الجزية، والإعفاء بعد ذلك من القتل، فهذا هو حكم الجزية، والموادعة غيرها، وإن أراد ترك قتالهم مع إمكانه قبل الظفر بهم، وهو معنى الموادعة فما في أحاديث الباب ما يطابقها، إلا ما ذكره من تأخر النعمان بن مقرن عن مقاتلة العدو وانتظاره زوال الشمس وهبوب الريح، فهو موادعة في هذا الزمان مع الإمكان للمصلحة، نبه على ذلك ابن المنير، وذكر (خ) العجم بعد المجوس من باب ذكر الخاص بعد العام.
          ومعنى قوله: {لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ} [التوبة:29] يعني: إيمان الموحدين؛ لأن أهل الكتاب يؤمنون بالله، ويقولون: له ولد، ويؤمنون بالآخرة، ويقولون لا أكل فيها ولا شرب.
          وقال / الداودي: {الْيَوْمِ الآخِرِ}: القيامة.
          قوله: {وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللّهُ وَرَسُولُهُ} [التوبة:29] أي: يقرون بتحريم ذلك، ويعتقدونه.
          {وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ} [التوبة:29]. قال أبو عبيدة [في] ((مجازه)): ولا يطيعون طاعة الحق، يقال: دان فلان لفلان: أطاعه.
          قوله: (({مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ})) [التوبة:29] هم اليهود والنصارى، واختلف في المجوس: هل لهم كتاب؟.
          والجمهور: لا. وقيل: نعم، فبدلوه فأصبحوا وقد أسري به، وإذا قلنا: لا؛ فالجماعة على أنها تؤخذ منهم الجزية إلا عند الملك.
          قال مالك في رواية ابن القاسم: تؤخذ من أهل الكتاب ومن المجوس عبدة الأوثان، وكل المشركين غير المرتدين وقريش.
          وفي ((مختصر ابن أبي زيد)): ونقاتل جميع الأمم حتى يسلموا أو يؤدوا الجزية.
          وحكى الطحاوي عن أبي حنيفة وأصحابه: أنها تقبل من أهل الكتاب، ومن سائر كفار العجم، ولا تقبل من مشركي العرب إلا الإسلام أو السيف.
          وقال الشافعي: لا تقبل إلا من أهل الكتاب، عرباً كانوا أو عجماً، وزعم أن المجوس كانوا أهل كتاب؛ فلذلك أخذت منهم، وروي ذلك عن علي.
          قال ابن بطال: وأما قول الشافعي: إن المجوس كانوا أهل كتاب فرفع فغير صحيح لو كان كذلك لكان لنا أن نأكل ذبائحهم وننكح نسائهم، وهذا لا يقول به أحد.
          وأيضاً فإنهم لو كانوا أهل كتاب فرفع كتابهم، لوجب أن يصيروا بمنزلة من لا كتاب له؛ لأن الشيء إذا كان لمعنى فارتفع المعنى ارتفع الحكم.
          قلت: الشافعي لم يستبد به، بل هو مروي عن علي، وإلزامه الذبيحة والنكاح لا يرد؛ لأنه ورد استثناؤه وقوله: وهذا لا يقوله أحد: غلط منه.
          فقد ذكر ابن أبي شيبة في ((مصنفه)) عن سعيد بن المسيب أنه قال: لا بأس تتسرى الجارية المجوسية. وذكر ذلك عن عطاء وطاوس وعمرو بن دينار، وذكر ابن قدامة وغيره عن أبي ثور أنه كان يرى بحل نسائهم وذبائحهم.
          قوله تعالى: {عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة:29] قال ابن عباس: يمشون بها منكبين.
          وقال سليمان: مذمومين. وقال قتادة: عن قهر وذلة، وقيل: معنى {عَن يَدٍ} عن إنعام منكم عليهم، وقيل: لا يبعثون بها كفعل الجبابرة.
          وقال سعيد بن جبير: يدفعها قائماً وآخذها جالس.
          وقوله: (({وَهُمْ صَاغِرُونَ} أذلاء)) هو قول أبي عبيد: أن الصاغر الذليل الحقير، وقيل: هم بإعطائها أذلة صاغرون.
          وتعليق ابن عيينة رواه في ((تفسيره)) وهو فعل عمر، وزاد على أهل الشام أقساطاً من زيت وخل وضيافة ثلاثة أيام، ورأى مالك أن يسقط عنهم الضيافة، ولا يزاد على فعل عمر.
          واختلف في مقدار الجزية؛ فقال مالك: أكثرها أربعة دنانير على أهل الذهب، وعلى أهل الورق أربعون درهماً ولا حد لأقلها.
          وأخذ مالك في ذلك بما رواه عن أسلم أن عمر بن الخطاب ضرب الجزية على أهل الذهب أربعة دنانير، وأهل الورق أربعين درهماً. وقال الكوفيون: يؤخذ من الغني ثمانية وأربعون درهماً، ومن الوسط أربعة وعشرون، ومن الفقير اثنا عشر، وهو قول أحمد.
          قال أحمد: ويزاد فيه وينقص على قدر طاقتهم، على قدر ما يرى الإمام، وعنه: أقلها كالشافعي، وأكثرها غير مقدر، يجوز الزيادة، ولا يجوز النقصان؛ لأن عمر زاد على فرض رسول الله ولم ينقص منه، وروي: أنه زاد جعلها / خمسين.
          وقال الشافعي: الجزية دينار في حق كل أحد، ودليل حديث معاذ: قال: بعثني رسول الله صلعم إلى اليمن وأمرني أن آخذ من كل حالم ديناراً أو عدله من المعافر ثياب تكون باليمن رواه أصحاب السنن الأربعة، وصححه الأئمة.
          قال الثوري: واختلفت الروايات في هذا عن عمر، فللوالي أن يأخذ بأيها شاء إذ كانوا أهل ذمة، وأما أهل الصلح فما صولحوا عليه لا غير.
          وقال عبد الوهاب بن نصر: في أمره ◙ أن يأخذ من كل حالم ديناراً، يحتمل أن يكونوا لم يقدروا على أكثر منه.
          وروي عن مالك: أنه لا يزاد على الأربعين درهماً، ولا بأس بالنقصان منها إذا لم يطق.
          مالك: وأرى أن ينفق من بيت المال على كل من احتاج من أهل الذمة إن لم يكن لهم حرفة ولا قوة على نفقة نفسه، وينفق على يتاماهم حتى يبلغوا.
          ويجب عند أبي حنيفة بأول الحول، خلافاً للشافعي وأحمد فقالا: بآخره، ولا يؤخذ من صبي ولا امرأة ولا مجنون ولا فقير غير معتمل، خلافاً للشافعي فيه، ولا يؤخذ من شيخ فان ولا زمن ولا أعمى.
          وفي قول للشافعي: يؤخذ منهم، ولا على سيد عبد إذا كان السيد مسلماً، ولا جزية على أهل الصوامع من أهل الرهبان، خلافاً للشافعي.
          وروي عن عمر بن عبد العزيز: أنه فرض على رهبان الديارات على كل واحد دينارين، وحديث بجالة من أفراد (خ). وبجالة: هو ابن عبدة، تميمي بصري.
          وجزء بالجيم المفتوحة والزاي، عامل عمر على الأهواز، انفرد به (خ)، كان حياً سنة سبعين بمكة، ووالد جزء هو معاوية بن حصين بن عبادة بن النزال بن مرة بن عبد مقاعس، واسمه: الحارث بن عمرو بن كعب بن زيد مناة بن تميم، عم الأحنف بن قيس.
          قال أبو عمر: لا تصح له صحبة، وقيل: فيه جزي بزاي مكسورة، وسكنها الخطيب.
          قال الدارقطني(1): وأصحاب الحديث يكسرون جيمه.
          والد بجالة السالف عبدة بفتح الباء الموحدة، ويقال: ابن عبد، حكاه ابن حبان في ((ثقاته)). وفي ((تاريخ خ)): بجالة بن عبد، أو عبد بن بجالة.
          وفيه: كما قال المهلب الحض على الوفاء بالذمة وما عوقدوا عليه من قبض الأيدي عن أنفسهم وأموالهم غير الجزية، وقد ذم الشارع من إذا عاهد غدر، وجعل ذلك من أخلاق النفاق.
          وفيه: حسن النظر في عواقب الأمور والإصلاح لمعاني المال وأصول الاكتساب.
          روى ابن عبد الحكم في كتابه ((فتوح مصر)) أحاديث في الوصاة بقبط مصر:
          منها: حديث أبي سلمة بن عبد الرحمن أنه ◙ أوصى عند وفاته: الله الله في قبط مصر، فإنكم ستظهرون عليهم، ويكونون لكم عدة وأعواناً في سبيل الله.
          ومنها: حديث رجل من الربذة أن رسول الله صلعم قال: ((استوصوا بالأدم الجعد)) ثلاثاً فسئل فقال: قبط مصر فإنهم أخوال وأصهار.
          ومنها: حديث أبي هانئ الخولاني / عن الحبلي وعمرو بن حبيب وغيرهما: أن رسول الله صلعم قال: ((إنكم ستقدمون على قوم جعد رؤوسهم فاستوصوا بهم خيراً))، وفي أفراد (م) من حديث أبي ذر مرفوعاً: ((إنكم ستفتحون أرضاً يكون فيها القيراط فاستوصوا بأهلها خيراً فإن لهم ذمة ورحماً)).
          ((باب ما أقطع النبي صلعم من البحرين))
          فيه ثلاثة أحاديث:
          حديث أنس: دعى النبي صلعم الأنصار... الحديث سلف في باب كتابة القطائع من الشرب معلقاً عن الليث، وهنا قد أسنده عن أحمد بن يونس.
          2- حديث جابر: ((لو قال مال البحرين)) وسلف.
          3- حديث أنس أيضاً علقه فقال: وقال إبراهيم بن طهمان... الحديث.
          قال المهلب: إنما أراد النبي صلعم أن يخص الأنصار بهذا الإقطاع، لما كانوا تفضلوا به على المهاجرين في مشاركتهم في أموالهم، فقالت الأنصار: لا والله حتى تعطي لإخواننا من قريش، يعني: المهاجرين بمثلها إمضاء لما وصفهم الله به من الأثرة، وحسن التمادي على الكرم، وهو عندهم آدم وقد نسبهم قوم من علماء الإسلام والأثر إلى أنهم من ولد سام وكان فيهم الصابئة ثم تمجسوا وبنوا بيوت النيران.
          وقال المسعودي: فارس أخو نبيط ولدا ناسور بن سام بن نوح، ومنهم من زعم أنه من ولد هيدرام بن أرفخشذ بن سام وأنه ولد بضعة عشر رجلاً، كلهم كان فارساً شجاعاً فسموا الفرس بالفروسية وقال: إبراهيم بن الفرج في ((البغية شرح لحن العامة)): الفارسي منسوب إلى فارس وهي أرض وقد بنتها السوس وهي أمة كانت بعد النبط.
          وزعم بعض العلماء أنهم من ولد يوسف بن يعقوب بن سام، وأنه ولد له بضعة عشر رجلاً كان فارساً شجاعاً فسموا الفرس بذلك، وزعم بعضهم أنهم من ولد ليومرت وهذا هو المشهور وإليه يرجع بنسبتها كما ترجع المروانية إلى مروان، والعباسية إلى العباس، وعند ابن حزم: المجوس لا يعرفون موسى ولا عيسى ولا أحداً من أنبياء بني إسرائيل، ولا محمداً ولا يقرون لأحد بنبوة.
          وقول عمر: فرقوا بين كل محرم من المجوس يحتمل وجهين:
          أحدهما: أن الله تعالى لم يأمر بأخذ الجزية إلا من أهل الكتاب، وأهل الكتاب لا ينكحون ذوات المحارم فإذا استعمل فيهم قوله ◙: ((سنو بهم سنة أهل الكتاب)) احتمل أن لا يقبل منهم الجزية إلا أن يسن بهم سنة أهل الكتاب في مناكحهم أيضاً.
          2- أن يكون عمر غلب على المجوس عنوة ثم أبقاهم في أموالهم عبيداً يعملون بها والأرض للمسلمين، ثم رأى أن يفرق بين ذوات المحارم من عبيده الذين استبقاهم على حكمه، واستحياهم باجتهاده وأن ذلك كان مجتهداً منعقداً في أصل استحيائهم واستبقائهم، ويكون اجتهاده في تفريقه بين ذوات محارمهم مستنبطاً من قوله: ((سنوا بهم سنة أهل الكتاب)) أي: ما كان أهل الكتاب يحملون في حريمهم ومناكحهم فاحملوا عليه المجوس.
          وقال الخطابي: أراد عمر أنهم يمنعون من إظهار هذا للمسلمين وإفشائه في مشاهدهم، وأن يفشوها كما يفشوا المسلمين أنكحتهم إذا عقدوها قال: وهذا شرط على النصارى أن لا يظهروا صليبهم لئلا يفتن بهم ضعفة المسلمين، ولا يكشفون عن شيء مما لا يستحلونه من باطن كفر وفساد مذهب.
          وفي الحديث أنه قد يغيب عن العالم المبرز بعض / العلم.
          وفيه التبشير بالإسهام لهم لقوله: ((بشروا وأملوا)) ومعنى ذلك: أملوا أكثر ما تطلبون من العطاء لأنهم لم يعرفوا مقدار ما قدم به أبو عبيدة فبشرهم بأكثر مما يظنون.
          وفيه: علامة النبوة؛ لأنه أخبرهم بما يخشى عليهم مما يفتح عليهم من الدنيا.
          وفيه: أن المنافسة في الاستكثار من المال سبيل من سبل الهلاك في الدنيا. والأمل: الرجاء.
          قوله: ((فتنافسوها)) يريد: المشاحة والتنازع.
          وعمرو بن عوف هذا بدري كما ذكره (خ)، وكذا ذكره ابن إسحاق وابن سعد فيمن شهد بدراً من المهاجرين، وهو مولى سهيل بن عمرو، مات في خلافة عمر.
          وفيه: التحذير من فتنة الدنيا، فإن من طلب منها فوق حاجته لم يجده، ومن قنع حصل له ما يطلب، وما الدنيا إلا كما قيل:
إن السلامة من سلمى وجارتها                     ألا تمر على حال بواديها
          وفي إسناد حديث جبير بن حية: المعتمر بن سليمان، قيل: إنه وهم، وصوابه المعتمر الرقي؛ لأن عبد الله بن جعفر راويه عنه لا يروي عن المعتمر بن سليمان، كذا رأيته بخط الدمياطي.
          وزياد بن جبير اتفقا عليه، وانفرد (خ) بأبيه جبير بن حية، وسعيد بن عبيد الله بن جبير بن حية بن مسعود الثقفي البصري.
          قوله فيه: ((بعث عمر الناس في أفناء الأنصار)) قال ابن بطال: هم طوائف لم يكونوا من فخذ واحد.
          وأما مشاورة عمر الهرمزان فبعد أن أسلم، وكان رجلاً بصيراً بالحرب له دربة ورأي في المملكة وتدبيرها؛ فلذلك شاوره عمر، مع أن عمر كان يعرف بما شار عليه، وثقته من نفسه أنه يشعر له إن غشه.
          وفيه: أن المشاورة سنة لا يستغني عنها أحد، ولو استغنى عنها أحد كان الشارع أغنى الناس عنها؛ لأن جبريل كان يأتيه بصواب الرأي من السماء، ومع ذلك فإن الله أمره بها حيث قال: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} [آل عمران:159] ولو لم يكن فيها إلا استئلاف النفوس وإظهار الموافقة والثقة بالمستشار، ولعله أن يبدوا من الرأي ما لم يكن ظهر.
          وأما العزيمة والعمل فإلى الإمام، لا يشركه فيه أحد؛ لقوله تعالى: {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ} [آل عمران:159] فجعل العزيمة إليه، وجعله مشاركاً في الرأي لغيره.
          وفيه: جواز مشاورة غير الوزير إذا [كان] ممن يظن عنده الرأي والمعرفة.
          وفيه: ضرب الأمثال.
          وفيه: أن الرأي في الحرب القصد إلى أعظم أهل الخلاف شوكة، كما أشار الهرمزان؛ لأنه إذا استؤصل الأقوى، سلم الأضعف.
          وفيه: كلام الوزير دون رأي الأمير، كما كلم عمر يوم حنين لأبي سفيان، وكما كلم الصديق في قصة سلاح قتيل أبي قتادة.
          قوله: ((كنا في شقاء شديد)) فيه: وصف أنفسهم بالصبر والثبات على مضض العيش.
          قوله: ((نعرف أباه وأمه)) أراد به شرفه ونسبته؛ لأن الأنبياء لا تبعث إلا من أشراف قومهم، فوصف شرف الطرفين من الأب والأم.
          وقول النعمان للمغيرة: ((ربما أشهدك الله مثلها)) يريد: ربما قد شهدت مع رسول الله فيما سلف مثل هذه الأحوال الشديدة، وشهدت معه القتال فلم يندمك ما لقيت معه من الشدة، ولم يحزنك لو قتلت معه؛ لعلمك بما تصير إليه من النعيم وثواب الشهادة.
          تقول: إنك كنت في ذلك على الخير والإصابة يغبطه ما تقدم من كلامه، ويعتذر إليه فيما يريد أن يقول بما شاهد من رسول الله صلعم.
          ويذكر أن النعمان قاتلهم، وكثرت جراحات المسلمين وأصيب منهم، فبات المسلمون يتضررون لما نالهم من الجراح، وبات الكفار / على الخمر، وقد أحضروا أموالاً كثيرة ونعماً، فقام النعمان خطيباً حين أصبح وحرضهم على القتال.
          قوله: ((ولكني شهدت القتال مع رسول الله)) هو ابتداء كلام واستئناف قصة أخرى: أعلمهم [أن] رسول الله كان إذا لم يقاتل أول النهار، ترك حتى تهب الرياح كما سلف، ولأن أفضل الأوقات أوقات الصلوات، وفيها الأذان، وجاء في الحديث: ((أن الدعاء بين الأذان والإقامة لا يرد)).
          و((الأرواح)) فيه جمع ريح؛ لأن أصله: روح سكنت الواو وانكسر ما قبلها فقلبت ياء، والجمع يرد الشيء إلى أصله.
          قوله أولاً: ((فأسلم الهرمزان)) وكان أسره أبو موسى الأشعري، كان سيداً فبعث به مع أنس إلى عمر، لما قدم عليه استعجم، فقال له عمر: تكلم، فقال: أكلام حي أم ميت؟ فقال عمر: تكلم فلا بأس عليك وبدرت الكلمة من عمر من غير تأمل فقال: كنا وإياكم نستعبدكم ونملككم معاشر العرب فأخلى الله بيننا وبينكم، فلما كان الله معكم لم يكن لنا بكم يدان؛ فتغيظ عمر وقال: قاتل الله البراء بن مالك، وهم به؛ فقال له أنس: يا أمير المؤمنين، تركت خلفي شوكة شديدة وعدواً كثيراً، إن قتلته يئس القوم من الحياة، وكان [أشد] لشوكتهم، وإن استحييته طمع القوم، فقال: يا رزين، استحيي، فلما [خشيت] أن يبسط عليه قلت له: لا سبيل لك عليه، فقال: ولم أعطاك، أصبت منه؟ قال: لا، ولكنك قلت له: تكلم فلا بأس، قال: لتأتين بمن يصدق ما تقول أو لا [بد] من عقوبتك، ولم يحفظ عمر ما قال، وكان الزبير قد حضر لمقالته فصدق أنساً، فأسلم الهرمزان.
          وكانت الروم قاتلت الفرس في أول الإسلام، فعلم من ذلك الهرمزان ما علم، فضرب له مثلاً وهو صحيح، عقله عمر وعمل عليه، وإنما جعل كسرى رأساً؛ لأنه أعظم ملكاً وأكثر أتباعاً وأوسع بلداً، ومثل بالجناحين، ولم يذكر أحد الرجلين، وأراد بهما من سوى هؤلاء الثلاثة للأمم، ومبادرة المغيرة بالكلام للترجمان، إما أن يكون أذن له أمير الجيش النعمان، أو بادره لما عنده من ذلك من العلم، وليطفئ النعمان المقالة ولا يكلف الأمير مخاطبة الترجمان.
          قال والدي ⌂:
          الجزية من الجزاء لأنها مال يؤخذ من أهل الكتاب جزاء الإسكان في دار الإسلام و((الموادعة)) المصالحة والذمة يقال للعهد وللأمانة.
          قوله: ((أذلاء)) جمع الذليل تفسير لقوله: صاغرون، قال الفربري: قال (خ): و((المسكنة)) مصدر المسكين يقال: هو أسكن من فلان أي: أحوج منه، ولم يذهب (خ) إلى أنه مشتق من السكون ضد الحركة.
          فإن قلت: ما وجه ذكر المسكنة هنا، قلت: عادته أنه يذكر ألفاظ القرآن التي لها أدنى مناسبة بينها وبين ما هو المقصود في الباب ويفسرها، وقد ورد في حق أهل الصغائر قوله تعالى: {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ} [البقرة:61].
          قوله: و((العجم)) هو أعم من المعطوف عليه من وجه وأخص من الوجه الآخر و((ابن عيينة)) هو سفيان و((ابن أبي نجيح)) بفتح النون وكسر الجيم وبالمهملة، عبد الله و((قبل اليسار)) بكسر القاف؛ أي: جهة الغني، وهذا مذهب من فرق بين الغني والفقير.
          قوله: ((جابر بن زيد)) الأزدي أبو الشعثاء بالمعجمة والمهملة فالمثلثة والمد، مر في الغسل مات سنة ثلاث وسبعين و((عمرو بن أوس)) بفتح الهمزة وبالمهملة، الثقفي و((بجالة)) بفتح الموحدة وتخفيف الجيم وباللام، ابن عبدة بالمهملتين والموحدة المفتوحات التميمي و((مصعب)) بضم الميم وفتح المهملة الثانية، ابن الزبير بن العوام قتل سنة إحدى وسبعين.
          قوله: ((كنت كاتباً)) هو مقول بجالة و((جزء)) بفتح الجيم وسكون / الزاي وبالهمز، ابن معاوية بن حصين بضم المهملة الأولى وفتح الثانية التميمي، قال الدارقطني: بكسر الجيم وفتح الزاي وشدة التحتانية و((الأحنف)) بسكون المهملة وفتح النون، ابن قيس بن معاوية.
          قوله: ((هجر)) قالوا: المراد به هجر البحرين، الجوهري: هو اسم بلد مذكر مصروف.
          وقال الزجاج: يذكر ويؤنث، الخطابي: أمر عمر بالتفرقة أي: بين الزوجين المراد منه أن يمنعوا من إظهاره للمسلمين والإشادة به في مجالسهم التي يجتمعون فيها للأملاك، وإلا فالسنة أن لا يكشفوا من بواطن أمورهم وعما يستحلون به من مذاهبهم في الأنكحة وغيرها، وذلك كما يشترط على النصارى أن لا يظهروا صليبهم ولا يفشوا عقائدهم لئلا يفتن به ضعف المسلمين ثم لا يكشف لهم عن شيء مما استحلوه من بواطن الأمور.
          وأما امتناع عمر من قبول الجزية من المجوس حتى إن شهد له عبد الرحمن يدل على أن رأيه في زمانه أن لا تقبل إلا من أهل الكتاب إذ لو كان عاماً لما كان لتوقفه في ذلك معنى.
          قوله: ((عمرو بن عوف)) بفتح المهملة وبالفاء، الأنصاري البدري و((عامر بن لؤي)) بضم اللام وشدة التحتانية و((أبو عبيدة)) بضم المهملة، عامر بن عبد الله الجراح أمين هذه الأمة و((العلاء)) بالمد، ابن عبد الله الحضرمي منسوباً إلى حضرموت بفتح المهملة والراء والميم وسكون الضاد المعجمة مات سنة أربع عشرة.
          قوله: ((أملوا)) من الأمل والتأميل و((الفقر)) بالنصب مفعول أخشى و((التنافس)) الرغبة، فإن قلت: كيف الجمع في الترجمة بين الجزية والموادعة، قلت: هو على طريق التوزيع أي: الجزية لأهل الذمة، والموادعة لأهل الحرب.
          وقال شارح التراجم: هما بمعنى واحد لأن أخذ الجزية موادعة؛ لأنها متاركة أو أراد بالموادعة ما في حديث النعمان حيث ترك المقاتلة بعد المصافة إلى أن قضى الترجمان حديثه وكذلك تأخير القتال إلى الزوال.
          قوله: ((الفضل)) بسكون المعجمة و((عبد الله الرقي)) بفتح الراء وشدة القاف مات سنة عشرين ومائتين، وقال بعضهم: أن الرقي لم يسمع من المعتمر والصحيح مكانه معمر بن راشد.
          قوله: ((سعيد بن عبيد الله)) في بعضها عبد الله مكبراً ابن جبير بن حية الثقفي وبالمثلثة والقاف المفتوحتين وبالفاء، و((بكر بن عبد الله المزني)) بضم الميم وفتح الزاي وبالنون و((زياد)) بكسر الزاي وخفة التحتانية، ابن جبير بن حية مر في باب الصوم يوم النحر و((جبير)) مصغر ضد الكسر ابن حية بفتح المهملة وشدة التحتانية، ابن مسعود الثقفي التابعي مات أيام عبد الملك بن مروان.
          قوله: ((أفناء الأنصار)) يقال: هو من أفناء الناس إذا لم يعلم ممن هو، و((الهرمزان)) بضم الهاء وسكون الراء وضم الميم وبالزاي وبالنون، علم رجل عظيم من عظماء العجم كان ملكاً بالأهواز، قال ابن قتيبة في ((المعارف)): قتله عبيد الله بن عمر بن الخطاب.
          قوله: ((مغازي)) بتشديد الياء و((نعم)) حرف الإيجاب وإن صح الرواية بلفظ فعل المدح فنعم المثل مثله، والضمير في مثلها راجع إلى الأرض التي يدل عليها المغازي و((شدخ)) بالمعجمتين وبإهمال الدال؛ أي: كسر ولفظ ((كسرى)) بفتح الكاف وكسرها و((قيصر)) غير منصرف، وكذا ((فارس)) اسم الجبل المعروف من العجم.
          فإن قلت: وما الرجلان، قلت: لقيصر مثلاً الإفرنج ولكسرى الهند مثلاً.
          فإن قلت: لم قال وإن كسر الرجلان فكذا. قلت: اكتفى بذلك للعلم بحاله قياساً على الجناح لاسيما أنه بالنسب إلى الطائر أسهل حالاً من الجناح.
          فإن قلت: إذا انكسر الجناحان والرجلان جميعاً لا ينهض أيضاً، قلت: الغرض أن العضو الشريف هو الأصل فإذا صلح صلح الجسد كله، وإذا فسد فسد بخلاف العكس.
          قوله: ((النعمان / بن مقرن)) بفتح القاف وكسر الراء المشددة وبالنون، المزني حامل لواء مزينة يوم الفتح استشهد يوم نهاوند سنة إحدى وعشرين و((الترجمان)) بضم التاء وفتحها وضم الجيم والوجه الثالث فتحهما نحو الزعفران و((مغيرة)) هو ابن شعبة الثقفي الكوفي الصحابي.
          قوله: ((أو تؤدوا الجزية)) فيه: دلالة على جواز أخذها من المجوس؛ لأنهم كانوا مجوساً.
          وفيه فصاحة المغيرة من حيث أن كلامه مبين لأحوالهم فيما يتعلق بدنياهم من المطعوم والملبوس ومذهبهم من العبادة ومعاملتهم مع الأعداء من طلب التوحيد أو الجزية ولمعادهم في الآخرة إلى كونهم في الجنة، وفي الدنيا إلى كونهم ملوكاً ملاكاً للرقاب، والخطاب في ((أشهدك الله)) للمغيرة وكان على ميسرة النعمان؛ أي: أحضرك الله مثل تيك المغازي أو هذه المقاتلة مع رسول الله ((ولم يندمك)) من الإندام يقال: أندمه الله فندم و((لم يخزك)) من الإخزاء يقال: خزي بالكسر إذا ذل وهان، وكأنه إشارة إلى غير خزايا ولا ندامى.
          قوله: ((الأرواح)) جمع: الريح وأصله الواو قلبت ياء لانكسار ما قبلها، ولعل السرَّ فيه الاحتراز عن تمادي القتل بسبب دخول الليل وظلمته والتبرك أيضاً بأوقات العبادة.
          فإن قلت: ما معنى الاستدراك وأين توسطه بين كلامين متغايرين، قلت: كان المغيرة قصد الاشتغال بالقتال أول النهار بعد الفراغ عن المكالمة مع الترجمان فقال النعمان: إنك وإن شهدت القتال مع رسول الله لكنك ما ضبطت انتظاره للهبوب.
          الزركشي:
          ((بجالة)) بفتح الباء والجيم، ابن عبدة، ويقال: ابن عبد.
          ((جزء بن معاوية)) بفتح الجيم وسكون الزاي وبعدها همزة، كذا قيده الأصيلي، وقيده عبد الغني: بفتح الجيم وكسر الزاي، وقال الدارقطني: المحدثون يقولون بكسر الجيم وأهل العربية يقولون: جزء.
          ((أن عمرو بن عوف الأنصاري)) كذا قال، وذكره ابن إسحاق وابن سعد ممن شهد بدرًا من المهاجرين، فقالا: عمير بن عوف مولى سهيل بن عمرو، مات في خلافة عمر.
          ((فوالله لا الفقر)) بالنصب مفعول ((أخشى)).
          ((الرقي)) بفتح الراء، نسبة إلى الرقة بلد بالشام.
          ((ابن حية)) بالمثناة.
          ((الأرواح)) جمع ريح لأن أصله: روح، سكنت الواو وانكسر ما قبلها قلبت ياء، والجمع يرد الشيء إلى أصله، وحكى ابن جني عن بعضهم في جمع الريح: أرياح لما رآهم قالوا: رياح.


[1] في المخطوط: ((الداركي)) ولعل الصواب ما أثبتناه.