مجمع البحرين وجواهر الحبرين

باب كفارات الأيمان

          ░░84▒▒ كتاب كفارات الأيمان
          وقول الله عز وجل: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} [المائدة:89]، وما أمر النبي صلعم حين نزلت {فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ} [البقرة:196] ويذكر عن ابن عباس وعطاء وعكرمة: ما كان في القرآن أو وقد خير النبي صلعم كعباً في الفدية.
          ثم ساق حديثه عن كعب بن عجرة في فدية الأذى السالف في الحج، وفيه أبو شهاب عبد ربه بن نافع الخياط صاحب الطعام، والعلماء متفقون على أن أو تقتضي التخيير كما ذكره (خ) عن ابن عباس وغيره، وأن الحانث في يمينه بالخيار، إن شاء كسا، وإن شاء أطعم، وإن شاء أعتق، فإن عجز عن هذه الثلاثة صام ثلاثة أيام.
          واختلف في مقدار الإطعام، فقالت طائفة: يجزئه لكل إنسان مد من طعام بمد الشارع، وروي ذلك عن ابن عباس وابن عمر / وزيد بن ثابت وأبي هريرة وهو قول عطاء والقاسم وسالم والفقهاء السبعة، وبه قال مالك والأوزاعي والشافعي وأحمد وإسحاق عن ابن ملكا قال: لئن أطعم بالمدينة فمدًّا لكل مسكين لأنه وسط عيشهم وسائر الأمصار وسطاً من عيشهم، وقالت طائفة: يطعم لكل مسكين نصف صاع حنطة وإن أعطى ثمراً أو شعيراً فصاعاً صاعاً.
          روي هذا عن عمر بن الخطاب وعلي ورواية عن زيد بن ثابت وهو قول النخعي والشعبي والثوري وسائر الكوفيين.
          وإنما ذكر (خ) حديث كعب في فدية الأذى هنا من أجل التخيير في كفارة الأذى كما هي في باب كفارة اليمين بالله.
          ومن الحجة لأهل هذه المقالة أن أوسط ما يطعم أهلينا ما غلب في العرف وهو ما يغدي ويعشي ويشبع، وليس في العرف أن يأكل الواحد صاعاً من شعير أو تمر الذي هو عندهم ثمانية أرطال ولا نصف صاع من بر وهو أربعة أرطال، والحكم معلق على الغالب لا على الناذر، ويجوز أن يغدي المساكين ويعشيهم عند مالك والكوفيين وقال الشافعي: لا يعطيهم المد إلا دفعة واحدة.
          وقال غيره: من ذهب إلى مد بمده ◙ تأول قوله تعالى: {مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ} [المائدة:89] أنه أراد الوسط من السبع ومن ذهب إلى مدين من بر أو صاع من شعير ذهب إلى السبع، وتأول في أوسط ما تطعمون الخبز واللبن والخبز والسمن والخبز والزيت قالوا: والأعلا الخبز واللحم والأدون دون إدام ولا يجوز عندهم الأدون لقوله من أوسط.
          واختلف فيما يجزئ من الكسوة في الكفارة، فقال مالك: ما يستر عورة المصلي فالرجل يستره القميص والمرأة قميص ومقنعة لأنها كلها عورة، ولا يجوز أن يظهر في الصلاة إلا وجهها وكفاها وقال أبو حنيفة والشافعي: يجزئه ما يقع عليه اسم كسوة.
          وشرط البر فيه أن يكون سلمه من عيب يخل بالعمل إخلالاً ظاهراً، وإذا عجز عن الجميع صام ثلاثة أيام وفي وجوب موالاتها قولان: أحدهما يجوز تفريق صومها وتتابعها أحب وهو قول مالك والأظهر عند الشافعي وثانيها يجب الموالاة ولا يجزئ التفريق وهو قول أبي حنيفة وأحد قولي الشافعي.
          قوله: (ففدية) التقدير فحلق فدية واختلف في المقدار الذي يجب فيه الفدية فعند مالك تتعلق الفدية بمقدار ما يبرئه به ويزول معه الأذى، وعند الشافعي: يتعلق بثلاث شعرات فما فوق وقال أبو حنيفة: ربع الرأس.
          وقال أبو يوسف: بالنصف لا ما دونه وإن حلق شعر بدنه وجبت عليه الفدية عند الجميع خلافاً لأهل الظاهر والنسك في فدية الأذى شاة كما صرح به في الحديث بذبحها حيث شاء هذا هو المشهور من مذهب مالك وقال أبو حنيفة والشافعي لا يجوز إلا في الحرم وقال ابن الجهم: يذبحه بمكة واتفقوا أنه يصوم حيث يشاء.
          والصيام ثلاثة أيام هو قول كافة الفقهاء وذكر ابن المنذر عن عكرمة والحسن البصري ونافع أن الصيام في هذا عشرة أيام وأن الصدقة على عشرة مساكين مدين لكل مسكين وقال أبو حنيفة إن أطعم هذا أطعم مدين وإن أطعم ثمراً فأربعة وعشرين مداً لستة مساكين.
          والهوام في حديث كعب القمل سماها هوام؛ لأنها تهم في الرأس أي تدب.
          وقال الجوهري: لا يقع هذا الاسم / إلا على المخوف من الأخشاش. وقال الهروي: الهوام: الحيات وكل ذي سم يقتل، فهي السوام مثل العقرب والزنبور، قال: ومنها الهوام مثل: القنافد والخنافس والفأر واليرابيع، قال: وقد تقع الهامة على ما يدب من الحيوان.
          وقال ابن فارس: الهوام: حشرات الأرض، وهو دوابها الصغار كاليرابيع والضباب.
          باب قوله عز وجل: {قَدْ فَرَضَ اللهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [التحريم:2]
          فيه حديث أبي هريرة في المجامع في رمضان، وسلف في بابه وأراد (خ) بإيراده أن يعرفك أن الكفارة تجب بعد الحنث وانتهاك الذنب، وسيأتي مذاهب العلماء في الكفارة قبل الحنث وبعده إن شاء الله تعالى.
          وتقدم ما للعلماء في الفقير يجب عليه الكفارة ولا يجد ما يكفر هل تسقط عنه أو تبقى في ذمته إلى حال إيساره في كتاب الصيام.
          واستدل مالك والشافعي بهذا الحديث أن الإطعام في كفارة الأيمان مُدٌّ لكل مسكين؛ لأن المكيل الذي أتى به الشارع، وقال للواطئ: خذ فتصدق به كان فيه خمسة عشر صاعًا، وذلك ستون مُدًّا، فالذي يصيب كل مسكين منهم مدٌّ، وزعم الكوفيون أنه قد يجوز أن يكون الشارع لما علم حاجة الرجل أعطاه المكتل من التمر بالخمسة عشر صاعًا ليستعين به فيما وجب عليه، كالرجل يشكو إلى الرجل ضعف حاله، وما عليه من الدين، فيقول: خذ هذِه العشرة دراهم فاقض بها دينك(1)، وليس على أنها تكون قضاء من جميع دينه، ولكن على أن تكون قضاء لمقدارها من دينه، وهذِه دعوى لا دليل عليها إلا الظن، والظن لا يغني من الحق شيئًا.
          وقول مالك أولى بالصواب، وهو ظاهر الحديث؛ لأنه ◙ لم يذكر مقدار ما تبقى عليه من الكفارة بعد الخمسة عشر صاعًا، ولم يكن يسعه السكوت عن ذلك حتى يبينه، لأنه ◙ يجب عليه البيان عند الحاجة.
          قوله: (بدت نواجذه) هو بالذال المعجمة. قال الأصمعي: هي الأضراس، وهو ظاهر الحديث، ولأن جل ضحكه التبسم. وقال غيره: هي الضواحك. وقال الجوهري: هي آخر الأضراس في الأسنان بعد الأرحاء وهو ضرس الحلم؛ لأنها تنبت بعد البلوغ وكمال العقل، يقال: ضحك حتى بدت نواجده: إذا استغرق فيه.
          وقال ابن فارس: الناجذ: السن بين الأنياب والضرس، وقيل: الأضراس كلها نواجذ. قيل: سبب ضحكه وجوب الكفارة على هذا المجامع، وأخذه ذلك صدقة وهو غير آثم.
          باب من أعان المعسر في الكفارة
          فيه حديث أبي هريرة المذكور أيضاً، وفيه فقال: اذهب بهذا فتصدق به وهو مطابق لما ترجم له.
          باب يعطي في الكفارة عشرة مساكين قريبا كان أو بعيدا
          فيه حديث أبي هريرة أيضًا وفيه: ((فهل تستطيع أن تطعم ستين مسكينا؟))... الحديث، وليس مطابقاً له ظاهرًا، إذ حكم كفارة اليمين مخالف لكفارة الوقاع في رمضان؛ لكن وجه إيراده ما قال المهلب أنه جاء قوله تعالى: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} [المائدة:89] مبهمًا بغير شرط قريب ولا بعيد، وبين الشارع في كفارة الوقاع أنه جائز في الأقارب؛ لقوله: ((أطعمه أهلك)) فقاس بذلك (خ) المبهم من كفارة الأيمان بالله لأنه مفسر، والمفسر يقضي على المجمل، إلا أن أكثر العلماء على أن الفقير يبقى في ذمته، فمن قال: هذا لا يجيز أن يعطي الكفارة أحدًا من أهله ممن تلزمه نفقته إلا وتكون باقية في ذمته، وإن كان ممن لا يلزمه نفقتهم فيجوز أن يعطيهم ويجزئه في الكفارة. وسلف ذلك في الصيام.
          باب صاع المدينة
          ومد النبي صلعم وبركتهما، فيه أحاديث:
          1- حديث / السائب بن يزيد قال: كان الصاع على عهد رسول الله مدًّا وثلثاً.
          2- حديث مالك، عن نافع قال: كان ابن عمر يعطي زكاة رمضان.. إلى آخره.
          3- حديث أنس أنه ◙ قال: ((اللهم بارك لهم)) الحديث.
          والحديث الأول يدل على أن مدهم ذلك الوقت حين حدث به السائب زنته أربعة أرطال، فإذا زيد عليه ثلثه وذلك رطل وثلث قام منه خمسة أرطال وثلث وهو الصاع بالبغدادي، بدليل أن مده ◙ فيه رطل وثلث، وصاعه أربعة أمداد بمده صلعم.
          وأما مقدار ما زيد عليه في زمن عمر بن عبد العزيز فلا يعلم ذلك إلا بخبر، وإنما الحديث يدل على أن مدهم ثلاثة أمداد بمده، ووصف ابن عمر المد بالأول ليفرق بينه وبين مد هشام بن الحارث الذي أخذ به أهل المدينة في كفارة الظهار؛ ليغلظها على المتظاهرين اللذين شهد عليهم أنهم يقولون منكراً من القول وزوراً، فجعلوها بمد هشام، وهو أكبر من مده ◙ بثلثي مد، ولم يكن لرسول الله صلعم إلا مد واحد، وهو الذي نقله أهل المدينة، وعمل به الناس إلى اليوم قرناً بعد قرن، وإجماع أهل المدينة حجة عند مالك، ومن ذلك: فعل الأذان والإقامة، وتقدم أذان الصبح قبل وقتها، وترك أخذ الزكاة من الخضروات، وقد رجع أبو يوسف بمثل هذا في تقدير المد والصاع، وترك مذهب إمامه. والفقهاء على قولين في كفارة الأيمان، فطائفة يقولون: إن الكفارات كلها بمده ◙ مد مد لكل مسكين، وكذلك الإطعام عمن فرط في رمضان حتى أتى رمضان آخر، وهو قول مالك والشافعي وأبي يوسف.
          وقال أهل العراق: الكفارات كلها مدان، مدان لكل مسكين، فالمد رطلان، والصاع ثمانية أرطال، قياساً على ما أجمعوا عليه من فدية الأذى في حديث كعب السالف أنه ◙ أمر أن يطعم كل مسكين نصف صاع، وهو مدان، وما أسلفناه يرده.
          قال المهلب: وإنما دعا الشارع لهم بالبركة في مكيالهم ومدهم وصاعهم، فإنه خصهم من بركة دعوته بما اضطر إليه أهل الأرض كلها إلى أن يشخصوا إلى المدينة ليأخذوا هذا المعيار المدعو له بالبركة، وينقلوه إلى بلدانهم، ويكون ذلك سنة في معايشهم وما افترضه الله عليهم لعيالهم، وقد سلف في كتاب الوضوء والغسل الحجة لمقدار مده.


[1] في هامش المخطوط: ((أقول: فيلزم قائل هذه المقالة أن يجوز أن يجري الكفارة في أقساط متعددة وأيضاً النبي ما قال له أد هذا من بعض كفارتك بل قال له أد هذا عن كفارتك يعني جميعها، وسياق الحديث ظاهر في هذا والأحكام الشرعية لا تثبت بالتحصيلات والأمور الواقعة بين الناس ولكن هذا ذات الحقيقة وكذا في مسألة الترتيب في الوضوء)).