مجمع البحرين وجواهر الحبرين

باب ستر المؤمن على نفسه

░‌‌60▒ (باب سَتْرِ الْمُؤْمِنِ عَلَى نَفْسِهِ)
           فيه حديث أبي هُرَيْرَةَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلعم يَقُولُ: «كُلُّ أُمَّتِي مُعَافًى إِلَّا المُجَاهِرِينَ» الحديث.
          6070- وحديث ابن عمر أنَّ رجلاً سأله: «كَيْفَ سَمِعْتَ النَّبيَّ صلعم يَقُولُ فِي النَّجْوى؟ » الحديث.
          حديث أبي هريرة أخرجه [مسلم] آخر كتابه، وحديث ابن عمر سلف في (المظالم) و(التفسير)، ويأتي في التوحيد، وأخرجه مسلم في (التوبة).
          [والحديث] الأول دال على الستر وقبح الهتك.
          والثاني: من عظم ما لهذِه الأمة من الرجاء.
          وروي عن ابن مسعود: (ما [ستر] الله على عبد في الدنيا إلا ستر الله عليه في الآخرة)، وهو مأخوذ من حديث النجوى.
          وقال ابن عباس في قوله تعالى: {وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً} [لقمان:20] قال: أما الظاهرة فالإسلام، وما حسن من خَلْقِكَ، وأفضل عليك من الرزق. وأما الباطنة: فما ستر عليك من الذنوب والعيوب.
          وفي ستر المؤمن على نفسه [منافع]، منها أنه إذا اختفى بالذنب عن العباد لم يستخفوا به ولا يستذلوه؛ لأن المعاصي تذل أهلها، [ومنها] أنه إن كان ذنبًا يوجب الحد سقطت عنه المطالبة في الدنيا، أي بالنسبة إلى الباطن، أما إذا [ثبت] عليه فإنه يحد وإن قال: تبت.
          وفي المجاهرة بالمعاصي الاستخفاف بحق الله وحق رسوله، وضرب من العناد [لهما]؛ فلذلك قال عليه السلام : «كل أمتي معافى إلا المجاهرين».
          قوله: (إِلَّا المُجَاهِرِينَ) ذكره ابن التين بلفظ: «المُجاهِرُون» ثم قال: كذا وقع، وصوابه عند البصريين: «المُجاهِرِينَ»، وأجاز الكوفيون الرفع في الاستثناء المنقطع في قوله: {فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ} [الكهف:50] ولم يجزه البصريون.
          (الكنف) بالنون: الستر، ومعنى الدنو من الرب القربُ منه. قال ابن فورك: معناه يقرب من رحمته وكرمه ولطفه؛ لاستحالة حمله على قرب المسافة والنهاية، إذ لا يجوز ذلك على الله؛ لأنه لا يحويه مكان، ولا يحيط به موضع، ولا تقع عليه الحدود. والعرب تقول: فلان قريب من فلان. يريدون به قرب المنزلة، وعلو الدرجة عنده.
          وقوله: (فيضعُ كَنَفَه عليه) يبين ما أشرنا إليه في معنى الدنو، وذلك أن لفظ (الكنف) إنما يستعمل في مثل هذا المعنى، ألا ترى أنه يقال: أنا في كنف فلان. إذا أراد أن يعرف إسباغ فضله عليه وتوقيره عنده، فعبر عليه السلام بالكنف عن ترك إظهار جرمه للملائكة وغيرهم بإدامة الستر الذي مَنَّ به على العبد في الدنيا، وجعله سببًا لمغفرته له في الآخرة، ودليلًا للمذنب على عفوه، ودليلًا له على نعمة الخلاص من فضيحة الدنيا وعقوبة الآخرة، التي هي أشد من الدنيا؛ لقوله تعالى: {وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى} [طه:27] فيشكر ربه ويذَّكر.
          أقول: فإن قلت: الكرام الكاتبين لا يفارقونه في حالة من الحالات، فكيف ستر عنهم؟ قلت: يحمل أن تكون الذنوب القلبية فإنها لا يعلمها إلا الله تعالى، أو يكون المراد الستر من النشر، فلا تنشر في الدنيا عنهم.
          وهذا الحديث كقوله: «إن رحمتي سبقت غضبي»؛ لأن تأخير غضبه عنه عند مجاهرته ربه بالمعصية، وهو يعلم أنه لا تخفى عليه خافية، / مما يعلم بصحيح النظر أنه لم يؤخر عقوبته عنه لعجز عن إنفاذها عليه، إلا لرحمته التي حكم لها بالسبق لغضبه، إذ ليس من صفة رحمته التي وسعت كل شيء أن تسبق في الدنيا بالستر من الفضيحة، ويسبقها الغضب من ذَلِكَ الذنب في الآخرة، فإذا لم يكن بدٌّ من تغليب الرحمة على الغضب، فليبشر المذنبون المتسترين بسعة رحمة الله، وليحذر المجاهرون بالمعاصي وعيد الله النافذ على من شاء من عباده.
          وفي قوله: (سترتها عليك في الدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم) نصٌّ منه على صحة قول أهل السنة في ترك إنفاذ الوعيد على العصاة من المؤمنين. والحجة من طريق النظر أنه ليس مذمومًا مَن وجب له حق على غيره فوهبه له، والمرء قد يقول لعبده: إن صنعت كذا عاقبتك بكذا، على معنى: إنك إن أتيت هذا الفعل كنت مستحقًّا عليَّ هذِه المعاقبة، فإذا جناها فالسيد مخيَّرٌ بين الإمضاء والترك.
          وإذا قال: إن فعلت كذا وكذا فلك عليَّ كذا وكذا. ففعل ما كلفه، لم يجز أن يخلفه بما وعده؛ لأن في تمام الوعد حقًّا للعبد، وليس لأحد أن يدع حق غيره، كما له أن يدع حق نفسه، والعرب تفتخر بخلف الوعيد، ولو كان مذمومًا لما جاز أن يفتخر بخلفه ويمتدح به.
          أنشد أبو عمرو الشيباني:
وإني إن أوعدته أو وعدته                     لمخلف إيعادي ومنجز موعدي
          فإن أخذ الله المنفذين للوعيد بحكمه أنفذه عليهم دون غيرهم؛ لقطعهم على الله الواسع الرحمة بإنفاذه الوعيد؛ لظنهم بالله ظن السوء فعليهم دائرة السوء، وكان لهم عند ظنهم كما وعد، فقال: «أنا عند ظن عبد بي، فليظن بي ما شاء».
          قوله: (وإنَّ مِن المُجاهَرَةِ) كذا في الأصول، وذكره ابن التين: ليس من المجانة. كذا. ثم قال: والمجانة: أن لا يبالي المرء بما صنع، وهي مصدر مَجَنَ يَمْجَنُ مُجُونًا ومَجَانَةً، بفتح الميم.
          وفي مسلم: «إن من الاجهار».
          وقوله: (البَارِحَة) هي أقرب ليلة مضت، تقول: لقيته البارحة، والبارحة الأولى، وهو من برح، أي: زال.