مجمع البحرين وجواهر الحبرين

كتاب الوصايا

          ░░55▒▒ ((كتاب الوصايا))
          وقول النبي صلعم: ((وصية الرجل مكتوبة عنده)).
          ثم ساق أربعة أحاديث:
          أحدها: حديث ابن عمر تابعه محمد بن مسلم.
          ثانيها: حديث عمرو بن الحارث.
          ثالثها: حديث طلحة بن مصرف.
          رابعها: حديث عائشة ذكر عندها أن عليا.
           ((الوصايا)): جمع وصية، أصلها من وصيت الشيء أصيه إذا وصلته، فكأنه وصل ما بعد مماته بحياته. وفي ((الباهر)) لابن عديس: الوصية و ((الوصاية)).
          والوصاية بفتح الواو وكسرها: الاسم من أوصى الرجل ووصاه، وحكاهما الجوهري أيضا، أعني: الوصايا بفتح الواو وكسرها.
          والحديث المعلق قد أسنده بعد.
          ومعنى (({كُتِبَ})): فرض أو ندب، المعنى: إذا كنتم في حال تخافون منها الموت فأوصوا.
          و ((الخير)): المال الكثير، قالته عائشة وجماعة.
          وعن علي أنه أربعة آلاف فما دونها نفقة، وتوقف في صحته عنه.
          وعن عائشة: من له أربعمائة دينار وله عدة من الولد، قال: كانت الوصية للولد والوالدين والأقربين فنسخ الله من ذلك ما أحب إلى من يرث، وقال الحسن وجماعة: هي واجبة للقرابة ((غير)) الوارثين، وقيل: المراد بها من لا يرث من الأبوين كالكافر والعبد.
          وقال الشعبي والنخعى: إنما كانت للندب. قال طاوس: إن أوصى لأجنبي وترك قريبه محتاجا نزعت منه وردت على القريب. وقال الحسن وإسحاق: إذا أوصى لغير وارثه بالثلث جاز له ثلث المال، وأخذ أقاربه الثلثين.
          ((والجنف)): الميل، كما ذكره (خ)، وهو ما ذكره أكثرهم كما قاله ابن التين، وقال الضحاك: الخطأ والإثم العمد، وقال طاوس: هو الرجل يوصي لولد ابنته. يريد ابنته.
          قال ابن بطال: وذلك مردود بإجماع. فإن لم يرد فوصيته من الثلث، ومعنى {غَيْرَ مُتَجَانِفٍ} [المائدة:3]: أي غير مائل وقال أبو عبيدة: جورا عن الحق وعدولا.
          وحديث ابن عمر أخرجه عن عبد الله بن يوسف، عن مالك، عن نافع عنه
          وأخرجه مسلم من حديث أيوب عن نافع: ((ما حق امرئ يوصي بالوصية وله مال يوصي فيه؛ تأتي عليه ليلتان إلا ووصيته مكتوبة عنده)) وذكر أبو مسعود في ((تعليقه)) أن مسلما عنده: ((يبيت ليلة)) ولم ((يؤخذ)) فيه كما نبه عليه ابن الجوزي وغيره، قال ابن عمر: ما مرت علي ليلة منذ سمعت رسول الله صلعم قال ذلك إلا وعندي وصيتي.
          وقد اختلف العلماء في وجوب الوصية على من خلف / مالا بعد أن تعلم أن حديث ابن عمر، فيه الحض على الوصية؛ خشية فجأة الموت، والإنسان على غير عدة ونسيان فقالت طائفة: الوصية واجبة على ظاهر الآية.
          قال الزهري: جعل الله الوصية حقا مما قل أو كثر.
          قيل لأبي مجلز: على كل عشر وصية؟ قال: كل من ترك خيرا.
          وبهذا قال ابن حزم؛ تمسكا بحديث مالك. وقالت طائفة: ليست واجبة، كان الموصي موسرا أو فقيرا، هو قول النخعي والشعبي، وهو قول مالك والثوري والشافعي.
          قال: أعني الشافعي قوله: ((ما حق امرئ مسلم)) يحتمل ما الحزم، ويحتمل ما المعروف في الأخلاق إلا هذا من جهة الفرض. واحتجوا برواية يحيى بن سعيد التي فيها: يريد أن يوصي فيه. فرد الأمر إلى إرادته، والشارع لم يوص، ورووا أن ابن عمر لم يوص، وهو الراوي. وعن النخعي: ليست الوصية فرضا، وهو قول أبي حنيفة والشافعي ومالك.
          قال ابن حزم: وكل هذا لا حجة لهم في شيء منه، أما من زاد يريد: مالكا ومن أسلفناه رووه بغير هذا اللفظ، لكن بلفظ الإيجاب فقط. وأما قولهم: إنه صلعم لم يوص. فقد كانت تقدمت وصيته بقوله الثابت يقينا: ((إنا معشر الأنبياء لا نورث، ما تركناه صدقة)) وهذه وصية صحيحة بلا شك؛ لأنه أوصى بصدقة كل ما يترك إذا مات، وإنما صح الأثر بنفي الوصية التي تدعيها الرافضة إلى علي فقط.
          بيان ما ادعوا، قد عارضهم صحابة، وإذا وقع التنازع لم يكن قول طائفة أولى من قول أخرى، والفرض حينئذ هو الرجوع إلى الكتاب والسنة، وكلاهما يوجب فرض الوصية.
          قال ابن العربي: السلف الأول لا نعلم أحدا قال بوجوبها، والأمر فمحمول على الندب، وقد أوصى صلعم عدة وصايا منها ما سلف.
          ومنها: ((لا يبقين دينان بجزيرة العرب))، وإجازة الوفد، و ((الصلاة وما ملكت أيمانكم)). وعند ابن إسحاق: أوصى عند موته لجماعة من قبائل العرب بجداد أوساق من تمر سهمه بخيبر وأوصى بالأنصار خيرا.
          وفي المسألة قول ثالث، قاله أبو ثور: إنها ليست واجبة إلا على رجل عليه دين أو عنده مال لقوم، فواجب أن يكتب وصيته ويخبر بما عليه؛ لأن الله فرض أداء الأمانات، فمن لا حق عليه ولا أمانة قبله فليس. بواجب عليه أن يوصي، يقويه قوله: ((ما حق امرئ مسلم)) فأضاف الحق إليه؛ كقوله: هذا حق زيد فلا ينبغي أن يتركه، فإذا تركه لم يلزمه.
          ثم اعلم أن الحق في اللغة هو الثابت مطلقا، فإذا أطلق في الشرع أعم من كونه واجبا أو مندوبا أو مباحا إذ كل واحد منها ثابت وموجود فيه، لكن إطلاق الحق على المباح قلما يقع في الشريعة، وإنما يؤخذ فيه بمعنى الواجب والندب، فإن اقترن به على ما في معناها ظهر فيه قصد الوجوب وإلا فهو محتمل كما جاء في هذا الحديث.
          وقوله: ((مكتوبة عنده)) فيه: أن الوصية نافذة وإن كانت عند صاحبها، ولم يجعلها عند غيره،
          وفيه: أن الكتاب يكفي من غير إشهاد، وبه قال محمد بن نصر المروزي، وهو ظاهر الحديث، ولولا أنه كاف لما كان لذكره فائدة. وحمله المتأخرون، منهم النووي على أن المراد: إذا أشهد عليه بها لا أنه يقتصر على مجرد الكتابة، بل لا يعمل بها ولا ينتفع إلا إذا كانت بإشهاد، وهذا مذهبنا ومذهب الجمهور، وكذا قال القرطبي: ذكر الكتابة مبالغة في زيادة الاستيثاق، فمن كتبها ولم يشهد بها فلم يختلف قول مالك / أنه لا يعمل بها إلا فيما يكون فيها من إقرار بحق لمن لا يتهم عليه، يلزمه تنفيذه.
          وأما حديث عمرو بن الحارث: فقد أسلفته في الكلام على أم الولد وكونه ختنه؛ لأنه أخو جويرية أم المؤمنين، وهذا قول ابن الأعرابي وابن فارس والأصمعي أن الختن من قبل المرأة، والصهر من قبل الزوج. وقال محمد بن الحسن: الختن: الزوج ومن كان من ذوي رحمه، والصهر من قبل المرأة.
          وقوله: ((أرضا جعلها صدقة)) إنما تصدق بها في صحته وأخبر بالحكم بعد وفاته، وهي: فدك والتي بخيبر، قاله ابن التين، وقال ابن المنير: ووجه دخوله هنا احتمال كون الصدقة هنا موسى بها، وهو مخالف لما ذكره ابن التين.
          وأما حديث ابن أبي أوفى: فقد سلف الجواب عنه، والمراد فيه أنه لم يوص، إنما أراد الوصية التي زعم بعض الشيعة أنه أوصى بالأمر إلى علي، وقد تبرأ علي من ذلك حين قال له: أعهد إليك رسول الله بشيء لم يعهده إلى الناس؟ فقال: لا، والذي فلق الحبة وبرأ النسمة ما عندنا إلا كتاب الله وما في هذه الصحيفة. وهو راد لما أكثره الشيعة من الكذب على أنه أوصى له بالخلافة.
          وأما أرضه وسلاحه وبغلته، فلم يوص فيها على جهة ما يوصي الناس في أموالهم؛ لأنه قال: ((لا نورث، ما تركناه صدقة)) ورفع الميراث عن أزواجه وأقاربه، وإنما تجوز الوصية لمن لا يجوز لأهله وراثته.
          وأما حديث عائشة: فيه: أنه انخنث. أي: انثنى. ومنه سمي: المخنث؛ لتثنيه وتكسره. قال صاحب ((العين)): الخنث: السقاء. وخنث: إذا سأل. وخنثته أنا.
          ووصيته بكتاب الله في الحديث الذي قبله غير معنى قول عائشة: بما أوصى؟
          وقوله فيه: ((أوصى بكتاب الله)). قد فسره علي بقوله: ما عندنا إلا كتاب الله. وكذلك قال عمر: حسبنا كتاب الله حين أراد أن يعهد عند موته.
          ░3▒ ((باب الوصية بالثلث))
          ░2▒ ((أن يترك ورثته أغنياء))
          فيه حديث سعد بن أبي وقاص وفيه: ((فالثلث، والثلث كثير)). بطوله، وقد سلف في الجنائز.
          وقوله: ((يرحم الله ابن عفراء)) قال الداودي: أراه غير محفوظ، والصواب: ابن خولة. كما ذكره (خ) في: الفرائض من حديث الزهري، عن عامر بن سعد، عن أبيه، ولعل الوهم أتى من سعد بن إبراهيم راويه عن عامر، والزهري أحفظ من سعد.
          واعلم أن الله تعالى ذكر الوصية في كتابه ذكرا مجملا، ثم بين رسوله صلعم أن الوصايا مقصورة على الثلث؛ لإطلاقه لسعد الوصية بالثلث في هذا الحديث، وليس بجور إذ لو كان جورا لبينه، وأجمع العلماء على القول به، واختلفوا في القدر الذي يستحب أن يوصي به الميت، وسيأتي بعد هذا، إلا أن الأفضل لمن له ورثة أن يقصر في وصيته عن الثلث، غنيا كان أو فقيرا؛ لأنه صلعم لما قال لسعد: ((الثلث كثير)) أتبعه بقوله: ((إنك إن تذر)) إلى آخره، ولم يكن لسعد يومئذ إلا ابنة واحدة كما ذكر هنا وفيما بعد، فدل أن ترك المال للورثة خير من الصدقة به، وأن النفقة على الأهل من الأعمال الصالحة.
          وروى ابن أبي شيبة من حديث ابن أبي مليكة، عن عائشة قال لها رجل: إني أريد أن أوصي. قالت: كم مالك؟ قال: ثلاثة آلاف. قالت: فكم عيالك؟ قال: أربعة. قالت: إن الله يقول: {إِن تَرَكَ خَيْرًا} [البقرة:180] وإن هذا شيء يسير، فدعه لعيالك، فإنه أفضل.
          وعن ابن عباس: من ترك سبعمائة درهم فلا يوصي، فإنه لم يترك خيرا. وقال قتادة في الآية: ألف درهم فما فوقها. قال ابن المنذر: وقد ((دلت)) هذه الآثار على أن من ترك مالا قليلا، فالاختيار له ترك الوصية، وإبقاؤه للورثة.
          وقوله: / ((عسى الله أن يرفعك...إلى آخره)) انتفع به من أدخله الإسلام، وضر به من هو كافر. أو أن ابنه عمر ولاه عبيد الله بن زياد على الجيش الذين لقوا الحسين فقتلوه. وهذا من أعلام نبوته. ووقع كما أخبر.
          وقال ابن بطال: ثبت أن سعدا أمر على العراق، فأتي بقوم ارتدوا عن الإسلام، فاستتابهم، فأبى بعضهم فقتلهم. ففر أولئك، وتاب بعضهم، فانتفعوا. وعاش سعد بعد حجة الوداع خمسا وأربعين سنة.
          وقوله: ((خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس في أيديهم)) العالة: جمع عائل، وهو الفقير الذي لا شيء له.
          و ((يتكففون)): يبسطون أكفهم لمسألتهم. قال صاحب ((العين)): استكف: بسط كفه.
          أكثر أهل العلم على أن هبة المريض وصدقاته من ثلثه إذا مات منه كسائر الوصايا. واتفق على ذلك فقهاء الحجاز والعراق. وقالت فرقة: هي من جميع المال كأفعاله، وهو صحيح. حكاه الطحاوي وقال: هذا قول لم نعلم أحدا من المتقدمين قاله. وأظنه قول أهل الظاهر: إذا قبضت وصية المريض وعطاياه فهي من رأس ماله، لأن ما قبض قبل الموت ليس وصية، وإنما الوصية ما يستحق بموت الموصي. وسواء قبضت عند جماعة الفقهاء أو لم تقبض هي من الثلث.
          وحديث عائشة في ((الموطأ)) أن أباها نحلها جاد عشرين وسقا بالغابة، فلما مرض قال: لو كنت حزتيه كان لك، وإنما هو اليوم مال الوارث. فأخبر الصديق أنها لو كانت قبضته في الصحة تم لها ملكه، وأنها لا تستطيع قبضه في المرض ولم تنكر ذلك عائشة على والدها، ولا سائر الصحابة، فدل أن مذهبهم جميعا كان فيه مثل مذهبه. وفي هذا أعظم حجة على من خالف قول جماعة العلماء. وكذلك فعل الشارع في الذي أعتق ستة أعبد له عند الموت لا مال له غيرهم. فأقرع بينهم، وأعتق اثنين، وأرق أربعة، فجعل العتق في المرض من الثلث. فكذا الهبة والصدقة لاشتراكها في تفويت المال.
          وقوله: ((ولم يكن له يومئذ إلا ابنة)). حدث له بعد ذلك خمسة من الولد. واختلف متى عاده صلعم. والصواب: في حجة الوداع، وبه قال الزهري.
          وقال ابن عيينة: في يوم الفتح، وغلطوه.