مجمع البحرين وجواهر الحبرين

[كتاب الرقاق]

          ░░81▒▒ كتاب الرقاق
          كذا في الأصول، وفي بعضها: الرقائق، وفي بعضها: ما جاء في الرقاق، وفي بعضها: ما جاء في الصحة والفراغ، وأن لا عيش إلا عيش الآخرة، وفي ((شرح ابن بطال)): باب لا عيش إلا عيش الآخرة.
          قال ابن سيده: الرقة: الرحمة، ورققت له أرق، ورق وجهه استحياء، والرقة ضد الغلظ، رق يرق رقا فهو رقيق ورقاق.
          وفي ((الصحاح)): ترقيق الكلام: تحسينه، وفي ((الجامع)): / الرقق في المال والعيش: القلة، فكان في قصد أحد هذه المعاني، والرقائق غير مقولة، وإن طبقت كتب العلماء.
          ثم ذكر فيه أحاديث:
          1- ثنا المكي بن إبراهيم.. إلى آخره.
          وتعليق عباس أخرجه (ق) في ((سننه))، وقال (ت): رواه غير واحد عن عبد الله بن سعيد، ورفعوه، ووقفه بعضهم، وروينا في كتاب المبرد: أنه ◙ قال: ((كفى بالسلامة داء)).
          وقال حميد بن ثور الهلالي:
أرى بصري قد رابني بعد صحة                     وحسبك داء أن تصح وتسلما
ولا يلبث العصران يوما وليلة                      إذا طلبا أن يدركا ما تيمما
          قال بعض العلماء: إنما أراد بقوله: ((نعمتان..)) إلى آخره تنبيه أمته على مقدار عظم نعمة الله على عباده في الصحة والكفاية؛ لأن المرء لا يكون فارغاً حتى يكون مكفيًّا مؤنة العيش في الدنيا، فمن أنعم الله عليه فليحذر أن يغبنهما، ومما يستعان به على دفع الغبن: أن يعلم العبد أن الله خلق الخلق من غير ضرورة إليهم، وبدأهم بالنعمة الجليلة من غير استحقاق منهم لها، فمن عليهم بصحة الأجسام، وسلامة العقول، وضمن أرزاقهم وضاعف لهم الحسنات، ولم يضاعف السيئات، وأمرهم أن يعبدوه ويعتبروا بما ابتدأهم به من النعم الظاهرة والباطنة، ويشكروه عليها بأحرف يسيرة، وجعل مدة طاعتهم في الدنيا منقضية بانقضاء أعمارهم، وجعل جزاءهم على ذلك خلوداً دائماً في جنته لا انقضاء لها، مع ما ذخر لمن أطاعه مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.
          فمن أنعم النظر في هذا كان حريًّا أن لا يذهب عنه وقت من صحته وفراغه، إلا وينفقه في طاعة ربه تعالى ويشكره على عظيم مواهبه، والاعتراف بالتقصير عن بلوغ تأدية كنه ذلك، فمن لم يكن هكذا وغفل وسها عن التزام ما ذكرنا، ومرت أيامه عنه في سهو ولهو، وعجز عن القيام بما لزمه لربه تعالى، فقد غبن أيامه، وسوف يندم حيث لا ينفعه الندم.
          وفي (ت) من حديث ابن المبارك، بسنده عن أبي هريرة مرفوعاً: ((ما من أحد يموت إلا ندم)) قالوا: وما ندامته يا رسول الله؟ قال: ((إن كان محسناً ندم أن لا يكون ازداد، وإن كان مسيئاً ندم أن لا يكون نزع)).
          قوله: (مغبون) هو نقص الرأي، قال ثعلب: غبن الرجل في البيع. يغبن غبناً، وغبن رأيه غبناً، وقال مكي: الغبن والغبن أصلهما النقص فبالإسكان: نقص في البيع، وبالفتح: نقص في الرأي وضعف.
          وفي ((نوادر اللحياني)): الغبن، والغبن والغبانة واحد، فكأنه قال: هذان الأمران ينقص في الرأي كثير من الناس فيهما، فلا يستعملوهما في وقت الاحتياج إليهما، كما في الحديث الآخر، ((ومن صحتك لسقمك ومن فراغك لشغلك))، فإذا لم ينظر في نفسه في هذين الوقتين، فكأنه غبن فيهما؛ أي: باعهما ببخس لا تحمد عاقبته، أو ليس له في ذلك رأي البتة، فإن الإنسان إذا لم يعمل الطاعات من صلاة وصيام، وحج، وغزو، وشبهها في زمن صحته وشبابه، فأجدر أن لا يعمل شيئاً من ذلك في زمن الشيخوخة، وعلى هذا يقاس الفراغ.
          وقال ابن الجوزي: قد يكون الإنسان صحيحاً، ولا يكون متفرغاً للعبادة؛ لاشتغاله بأسباب المعاش، وقد يكون متفرغاً من الأشغال ولا يكون صحيحاً، فإذا اجتمعا للعبد غلب عليه الكسل عن نيل الفضائل، فذلك الغبن، كيف والدنيا سوق الأرباح، والعمر قصير، والعوائق كثير.
          2- حديث أنس، عن النبي صلعم قال: ((اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة)).
          3- حديث سهل بن سعد الساعدي قال: كنا مع رسول الله الحديث.
          فذكره إلا أنه قال ((فاغفر)) بدل ((فأصلح)).
          ونبه بذلك أمته على تصغير شأن الدنيا / وتقليلها، وكدر لذاتها، وسرعة فنائها، وما كان هكذا فلا معنى للشغل به عن العيش الدائم الذي لا كدر في لذاته، بل فيه ما تشتهيه الأنفس، وتلذ الأعين.