مجمع البحرين وجواهر الحبرين

[كتاب القدر]

          ░░82▒▒ كتاب القدر
          ذكر (خ) في الباب: حديث زيد بن وهب، عن عبد الله، يعني: ابن مسعود، ثنا رسول الله صلعم وهو الصادق المصدوق: ((إن أحدكم... الحديث)).
          وحديث أنس، عن النبي صلعم: ((وكل الله بالرحم ملكاً... الحديث)).
          حديث أنس سلف في الحيض، وحديث ابن مسعود سلف في بدء الخلق.
          ومعنى وصفه بالصادق: عصمته، لا يقول إلا حقًّا، وبالمصدوق: أن الله صدقه فيما وعده به، وهذا تأكيد.
          و(العلقة) واحدة العلق، وهو الدم قبل أن ييبس، وهو جامد، والمضغة: القطعة الصغيرة من اللحم، سميت بذلك؛ لأنها قدر ما يمضغ.
          قوله: (فيؤمر بأربع) أي: كلمات، وكذا لم تثبت الهاء في أربع.
          قوله: (برزقه، وأجله، وشقي أو سعيد) هذه ثلاثة؛ لأنه لا تجتمع الشقاوة والسعادة في واحد، وهو قد قال: ((أربع)). ولعله ذكر جملة ما يؤمر به، لا أن كل شخص يؤمر فيه بهذه الأربع، وفي رواية أخرى: ((رزقه، وأجله، وأثره، وشقي أو سعيد)) وهذا أبين من الأول، ويكون على كل شخص، وفي ابن حبان زيادة سلفت، إذ روى من حديث أبي الدرداء مرفوعاً: ((فرغ الله إلى كل عبد من خمس: من رزقه، وأجله، وعمله، وأثره، ومضجعه)) يعني: قبره، فإنه مضجعه على الدوام {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} [لقمان:34].
          وروى رزين في ((تجريد الصحاح)) من حديث سهل بن سعد مرفوعاً: ((إذا وقعت / النطفة في الرحم)). الحديث، وفيه: فيقول: ((أذكر أم أنثى، أشقي أم سعيد، وما عمره، وما أثره، وما رزقه، وما مصائبه، فيقول الله، ويكتب الملك)) فإذا مات الجسد، ودفن من حيث أخذ ذلك التراب، كذا ذكره، ولم يعلم له، ومقتضاه أن (خ) رواه، كما اصطلح عليه في خطبته، ولم نره فيه، لا جرم عزاه ابن الأثير إلى رزين وحده، وهو غريب غير مشهور.
          ومعنى: (يجمع في بطن أمه) ما فسره ابن مسعود، سئل الأعمش عنه، قال: حدثني خيثمة قال: قال عبد الله بن مسعود: النطفة إذا وقعت في الرحم، فأراد الله أن يخلق منها بشراً طارت في بشر المرأة، تحت كل شعرة وظفر، ثم تمكث أربعين ليلة، ثم تصير دماً في الرحم، فذلك جمعها.
          قوله: (يعمل بعمل أهل الجنة) إلى آخره. قال الداودي: يقول قد يعمل أحدكم العمل الصالح إلى قرب موته، وقرب معاينته الملائكة الذين يقبضون روحه، ثم يعمل السيئات التي توجب النار، وتحبط ذلك العمل، فيدخل النار، والإيمان لا يحبطه إلا الكفر، قال تعالى: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ}الآية [الزمر:65].
          وذكر عن عمرو بن عبيد إمام القدرية، وزاهدهم ومقدمهم، أنه قال: لو سمعت هذا الحديث من أبي عثمان لكتبته، ولو سمعته من زيد بن وهب لرددته، ولو سمعته من ابن مسعود لما قبلته، ولو سمعته من رسول الله لطرحته، ولو سمعته من الله لقلت: ما على هذا أخذت مواثيقنا؟ فهذا قد ارتكب في مقالته هذه خطباً جسيماً، نعوذ بالله من الضلال.
          قوله: (غير باع ولا ذراع) قال ابن التين: غير باع؛ كذا وقع لأبي ذر، والباع؛ قدر مد اليدين، وهذا تمثيل كلام.
          قال المهلب: في هذا الحديث رد لقول القدرية، واعتقادهم أن العبد يخلق أفعاله كلها من الطاعات والمعاصي، وقالوا: إن الله يتنزه عن أن يخلق المعاصي والزنا والكفر وشبهه، فبان في هذا الحديث تكذيب قولهم بما أخبر به ◙ أنه يكتب في بطن أمه شقي أو سعيد، مع تعريف الله العبد أن سبيل الشقاء هو العمل بالمعاصي والكفر، فكيف يجوز أن يعمل بما أعلم الله أنه يعذبه عليه، ويشقيه به مع قدرة العبد على اختياره لنفسه وخلقه لأعماله دون ربه تعالى الله أن يكون معه خالق غيره، ثم قطع القدرية بقوله: ((فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها)) فلو كان الأمر إلى اختيار؛ أتراه كان يختار خسارة عمله طول عمره بالخير، ثم يخلق لنفسه عملاً من الشر والكفر، فيدخل به النار، وهل السابق له إلا فعل ربه وخلقه له؟ وخلق عمله السيئ كسباً له، فاكتسب العبد بشهوة نفسه الأمارة بالسوء، مستكفراً بذلك العمل، أقدره الله عليه بقدر خلقها له بحضرة الشيطان المغوي لنفسه الأمارة له مع الشيطان بالسوء، فاستحق العقاب على ذلك، فانقطعت حجة العبد بالنذارة، وانقطعت حجة القدرية بسابق كتاب الله تعالى على العبد المعترف بمآل أمره اكتسابه العمل القبيح؛ يخلق الله له قدرة على عمله بحضرة عدويه؛ نفسه وشيطانه؛ ولذلك نسب الشر إلى الشيطان لتزيينه له، ونسبة الخير إلى الله لخلقه لعبده، وإقدار العبد عليه مع حضرة الملك المسدد له، الدافع لشيطانه عنه بعزة الله وعصمته، هذا هو أصل الكلام في القدرية.
          ثم يلزمهم أن يكون العبد شريكاً لله في خلقه، بأن يكون العبد يخلق أفعاله، والله تعالى قد أتى من ذلك بقوله: {اللّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الرعد:16]، و{هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللهِ} [فاطر:3]، فخالفوا النص، وأوجبوا للعبد من القدرة على خلق عمله ما أوجبه الله لنفسه من الانفراد بالخلق؛ ولذلك سميت القدرية مجوس هذه الأمة في عدة أحاديث؛ لقولها: بخالقين، مثل ما قالته المجوس من اعتبارها الأرباب(1) من الشمس والقمر والنور والنار والظلمة، كل على اختياره، وقد نص الله على إبطال قول القدرية لعلمه بضلالهم؛ ليهدي بذلك أهل سنته، فقال تعالى: {وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات:96].


[1] في المخطوط: ((لآبار)) ولعل الصواب ما أثبتناه.