إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

باب قوله: {إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح}

          ░26▒ هذا(1) (بابٌ) بالتَّنوين (قوله) ╡: ({إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ...} إِلَى قَوْلِهِ: {وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ}[النساء:163]) وسقط لفظ «باب» لغير أبي ذرٍّ، وقوله: «{كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ}(2)» لغير أبوي ذرٍّ والوقت، والكاف في {كَمَا أَوْحَيْنَا} نصبٌ بمصدرٍ محذوفٍ، أي: إيحاءً مثل إيحائنا، أو على أنَّه حالٌ من ذلك المصدر المحذوف، و«ما»: تحتمل المصدريَّة؛ فلا تفتقر إلى عائدٍ على الصَّحيح، والموصوليَّة؛ فيكون العائد محذوفًا.
          وعن ابن عبَّاسٍ ╠ فيما رواه ابن إسحاق: «أنَّ سُكَيْنًا وعديَّ بن زيدٍ(3) قالا: يا محمَّد ما نعلم أنَّ الله أنزل على بشرٍ من شيءٍ من بعد موسى، فأنزل الله تعالى في ذلك: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا...}» إلى آخره(4).
          وعن محمَّد بن كعبٍ القرظيِّ: «أنزل الله: {يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِّنَ السَّمَاء...} إلى قوله: {بُهْتَانًا عَظِيمًا}[النساء:153-156] فلمَّا تلاها عليهم _يعني: اليهود_ وأخبرهم بأعمالهم الخبيثة؛ جحدوا كلَّ ما أنزل الله تعالى، وقالوا: {مَا أَنزَلَ اللّهُ (5) عَلَى بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ} فقال: ولا على أحدٍ! فأنزل الله: {وَمَا قَدَرُواْ اللّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُواْ مَا أَنزَلَ اللّهُ عَلَى بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ}[الأنعام:91]» قال ابن كثيرٍ: وفي هذا الذي قاله محمَّد بن كعبٍ نظرٌ؛ فإنَّ هذه الآية مكِّيَّةٌ في سورة الأنعام، وهذه الآية التي في النِّساء مدنيَّةٌ، وهي ردٌّ عليهم لمَّا سألوه صلعم أن يُنزِل عليهم كتابًا من السَّماء، قال الله تعالى: {فَقَدْ سَأَلُواْ مُوسَى أَكْبَرَ مِن ذَلِكَ}[النساء:153] ثمَّ ذكر فضائحهم ومعايبهم، ثمَّ ذكر أنَّه أوحى إلى عبده كما أوحى إلى غيره من النَّبيِّين، فقال مخاطبًا حبيبه، وآثر صيغة التَّعظيم؛ تعظيمًا للمُوحِي والموحَى إليه: { إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ}[النساء:163] أي: لك أسوةٌ بالأنبياء السَّالفة، فتأسَّ بهم {وَكُـلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاء الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ}[هود:120] لأنَّ شأن وحيك كشأن وحيهم، وبدأ بنوحٍ؛ لأنَّه أوَّل نبيٍّ قاسى الشِّدَّة من الأمَّة، وعطف عليه النَّبيِّين من بعده، وخصَّ منهم إبراهيم إلى داود ♂ ؛ تشريفًا لهم(6)، وترك ذكر موسى ليبرزه مع ذكرهم بقوله: {وَكَلَّمَ اللّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا}[النساء:164] على نمطٍ / أعمَّ من الأوَّل؛ لأنَّ قوله: {وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَرُسُلاً لَّمْ نَقْصُصْهُمْ}[النساء:164] من التَّقسيم الخاصِّ(7)‼؛ مزيدًا لشرفه واختصاصه بوصف التَّكليم دونهم، أي: رسلًا فضَّلهم واختارهم وآتاهم الآيات البيِّنات، والمعجزات القاهرات(8) الباهرات إلى ما لا يحصى، وخصَّ موسى بالتَّكليم، وثلَّث ذكرهم على أسلوبٍ يجمعهم في وصفٍ عامٍّ على جهة المدح، والتَّعظيمُ(9) سارٍ في غيرهم؛ وهو كونهم مبشِّرين ومنذرين، وجعلهم حجَّة الله(10) على الخلق طرًّا لقطع معاذيرهم، فيدخل في هذا القسم كلُّ من دعا(11) إلى هدًى وبشَّر وأنذر كالعلماء، وظهر من هذا التَّقدير طبقات الدَّاعين إلى الله بأسرهم، قاله في «فتوح الغيب».


[1] «هذا»: ليس في (د).
[2] في (ج) و(ل): «كما أرسلنا إلى نوح».
[3] في (د): «يزيد» ولعلَّه تحريفٌ.
[4] «{كَمَا أَوْحَيْنَا}...إلى آخره»: مثبتٌ من (د).
[5] قوله: «تعالى، وقالوا: {مَا أَنزَلَ اللّهُ}»، سقط من (ص).
[6] في (ل): «وخصَّ منهم داود تشريفًا لهم».
[7] في (د): «الحاصر».
[8] «القاهرات»: ليس في (د).
[9] في (د): «والمدح»، ولعلَّه سبق نظرٍ.
[10] اسم الجلالة: ليس في (د).
[11] في (ب): «عاد» ولعلَّه تحريفٌ.