إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

باب:{لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرهًا}

          ░6▒ هذا (بابٌ) بالتَّنوين في قوله تعالى: ({لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النِّسَاء كَرْهًا}) {أَن تَرِثُواْ}: في موضع رفعٍ على الفاعليَّة بـ {يَحِلُّ} أي: لا يحلُّ لكم إرث النِّساء و {النِّسَاء}: مفعولٌ به، إمَّا على حذف مضافٍ، أي: أن ترثوا أموال النِّساء، والخطاب للأزواج؛ لأنَّه رُوي: «أنَّ الرَّجل كان إذا لم يكن له في المرأة غرضٌ؛ أمسكها حتَّى تموتَ، فيرثَها، أو تفتدي بمالها إن لم تمت» وإمَّا من غير حذفٍ؛ على معنى: أن يَكُنَّ بمعنى الشَّيء الموروث إن كان الخطاب للأولياء أو لأقرباء الميِّت، كما يأتي قريبًا إن شاء الله تعالى، و {كَرْهًا}: في موضع نصبٍ على الحال من {النِّسَاء} أي: ترثوهنَّ كارهاتٍ أو مُكرَهاتٍ ({وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ}) جزمٌ بـ {لاَ} النَّاهية، أو نصبٌ عطفٌ على {أَن تَرِثُواْ} و {لاَ}: لتأكيد النَّفي، وفي الكلام حذفٌ، أي: لا تعضلوهنَّ من النِّكاح؛ إن كان الخطاب للأولياء، أو(1) لا تعضلوهنَّ من الطَّلاق إن كان الخطاب(2) للأزواج ({لِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ}) اللَّام متعلِّقة بـ {تَعْضُلُوهُنَّ} والباء للتَّعدية المرادفة لهمزتها أو للمصاحبة، فالجارُّ في محلِّ نصبٍ على الحال ويتعلَّق بمحذوفٍ، أي: لتذهبوا مصحوبين ببعض ({مَا آتَيْتُمُوهُنَّ}[النساء:19] الآيَةَ(3)) و {مَا}: موصولةٌ بمعنى: الذي، أو نكرةٌ موصوفةٌ، وعلى التَّقديرين فالعائد محذوفٌ، وسقط «{وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ}... إلى {آتَيْتُمُوهُنَّ}» لغير أبي ذرٍّ، وقالوا: ”الآية“(4).
          (وَيُذْكَرُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ) ممَّا وصله الطَّبريُّ وابن أبي حاتمٍ: ({ لاَ تَعْضُلُوهُنَّ}) أي: (لَا تَقْهَرُوهُنَّ) بالقاف، ولأبي ذرٍّ عن الكُشْميهَنيِّ: ”لا تنتهروهنَّ“ بالنُّون.
          وقوله تعالى: {إِنَّهُ كَانَ} ({حُوبًا}[النساء:2]) قال ابن(5) عبَّاسٍ فيما وصله ابن أبي حاتمٍ بإسنادٍ صحيحٍ أي: (إثمًا).
          وقوله تعالى: {ذَلِكَ أَدْنَى أَلاَّ} ({تَعُولُواْ}[النساء: 3]) قال ابن عبَّاسٍ فيما وصله ابن المنذر أي‼: (تَمِيلُوا) من عال يعول؛ إذا مال وجار، وفسَّره الإمام الشَّافعيُّ: بألَّا تكثر عيالكم، وردَّه جماعةٌ كأبي بكر بن داود الرَّازيِّ والزَّجَّاج، فقال الزَّجَّاج: هذا غلطٌ من جهة المعنى واللَّفظ؛ أمَّا الأوَّل؛ فإنَّ(6) إباحة السَّراري _مع أنَّها مظنَّة كثرة العيال_ كالتَّزوج، وأمَّا اللَّفظ فلأنَّ مادة «عال» بمعنى: كثر عياله من ذوات الياء؛ لأنَّه من العيلة، وأما «عال» بمعنى: جار؛ فمن ذوات الواو، فاختلفت المادَّتان، وقال صاحب «النَّظم»: قال أوَّلًا: {أَلاَّ تَعُولُواْ}(7)، فوجب أن يكون ضدَّه / الجور، وأيضًا فقد خالف المفسِّرين، وقد ردَّ النَّاس على هؤلاء؛ فأمَّا قولهم: إنَّ التَّسرِّي أيضًا تكثر معه العيال مع أنَّه مباحٌ؛ فممنوعٌ؛ لأنَّ الأمَةَ ليست كالمنكوحة؛ ولذا يعزل عنها بغير إذنها، ويؤجِّرها، ويأخذ أجرتها ينفقها عليه وعليها وعلى أولادها، ويقال: عال الرَّجل عياله يَعولُهم، أي: مانَهم يمُونهم، أي: أنفق عليهم، ومنه: «ابدأ بنفسك ثمَّ بمن تعول» وحكى ابن الأعرابيِّ: عال الرَّجل يعول: كثر عياله، وعال يعيل: افتقر وصار له عائلةٌ، والحاصل: أنَّ «عال» يكون لازمًا ومتعدِّيًا؛ فاللَّازم: يكون بمعنى: مال وجار، ومنه: عال الميزان، وبمعنى: كثر عياله، وبمعنى: تفاقم الأمر، والمضارع من كلِّه «يَعُول»، وعال الرَّجل: افتقر، وعال في الأرض: ذهب فيها، والمضارع من هذين «يَعيْل»، والمتعدِّي: يكون بمعنى: أثقل، وبمعنى: مان من المؤونة، وبمعنى: غلب، ومنه: عيل صبري، ومضارع هذا كلِّه «يعول»، وبمعنى: أعجز، يقال: عالني الأمر، أي: أعجزني، ومضارع هذا «يعيل»، والمصدر «عَيْلٌ» و«مَعِيلٌ»(8)، فقد تلَّخص من هذا: أنَّ «عال» اللَّازم يكون تارةً من ذوات الواو، وتارةً من ذوات الياء باختلاف المعنى، وكذلك «عال» المتعدِّي أيضًا؛ فقد روى الأزهريُّ عن الكسائيِّ قال: عال الرَّجل: إذا افتقر، وأعال: إذا كثر عياله، قال: ومن العرب الفصحاء من يقول: عال يعول إذا كثر عياله، قال الأزهريُّ: وهذا يقوِّي قول الشَّافعيِّ؛ لأنَّ الكسائيَّ لا يحكي عن العرب إلَّا ما حفظه وضبطه، وقول الشَّافعيِّ نفسه حجَّةٌ، وحكى البغويُّ عن أبي حاتمٍ قال: كان الشَّافعيُّ أعلم بلسان العرب منَّا، ولعلَّه لغةٌ(9)، وعن أبي عمرٍو الدُّوريِّ القارئ _وكان من أئمَّة اللُّغة_ قال: هي لغة حِمْيَر، وأمَّا قولهم: إنَّه خالف المفسِّرين؛ فليس كذلك؛ فقد روي عن زيد بن أسلم نحو قوله، أسنده الدَّارقطنيُّ وذكره الأزهريُّ في كتابه «تهذيب اللُّغة»، وأمَّا قولهم: اختلفت المادَّتان؛ فليس بصحيحٍ؛ فقد تقدَّم حكاية ابن الأعرابيِّ عن العرب: عال الرَّجل يعول كثر عياله، وحكاية الكسائيِّ والدُّوريِّ، وقرأ طلحة بن مصرِّفٍ: ▬ألَّا تُعيلوا↨ بضمِّ تاء المضارعة، من أعال: كثر عياله، وهي تعضد تفسير‼ الشَّافعيِّ من حيث المعنى، وقد بسط الإمام فخر الدِّين العبارة في الرَّدِّ على أبي بكر الرَّازيِّ، وقال: الطَّعن لا يصدر إلَّا عن كثرة الغباوة وقلَّة المعرفة، وقال الزَّمخشريُّ بعد أن وجَّه قول الشَّافعيِّ بنحو ما سبق: وكلام مثله من أعلام العلم وأئمَّة الشَّرع ورؤوس المجتهدين حقيقٌ بالحمل على الصِّحَّة والسَّداد، وكفى بكتابنا المترجم بكتاب «شافي العيِّ من كلام الشافعيِّ» شاهدًا بأنَّه أعلى كعبًا وأطول باعًا في علم كلام العرب من أن يخفى عليه مثل هذا، ولكنَّ للعلماء طرقًا وأساليب، فسلك في تفسير هذه الكلمة طريقة الكنايات(10). انتهى. وقوله: «أعلى كعبًا»: مثلٌ لاطِّلاعه على علوم العربية، وكونه ذا حظٍّ وافرٍ فيها.
          وقوله تعالى: {وَآتُواْ النَّسَاء صَدُقَاتِهِنَّ} ({نِحْلَةً}[النساء:4]) قال ابن عبَّاسٍ فيما وصله ابن أبي حاتمٍ والطَّبريُّ: (النِّحْلَةُ) ولأبي ذرٍّ: ”فالنِّحلة“: (المَهْرُ) وقيل: فريضةٌ مسمَّاةٌ، وقيل: عطيَّةٌ وهبةٌ، وسُمِّي الصَّداق نِحْلةً؛ من حيث إنَّه(11) لا يجب في مقابلته غير التَّمتُّع دون عوضٍ(12) ماليٍّ.


[1] في (ص): «أي»، ولعلَّه تحريفٌ.
[2] «الخطاب»: مثبتٌ من (د).
[3] «الآية»: سقط من (د) و(م).
[4] «وقالوا: الآية»: ليس في (ص).
[5] زيد في (د): «أبي»، وليس بصحيحٍ.
[6] في (ب) و(س): «فلأنَّ».
[7] في (م): «تقولوا»، وهو تحريفٌ.
[8] في (د) و(م): «ويعيل»، وليس بصحيحٍ.
[9] في (د): «لغته».
[10] في (ب): «الكناية».
[11] في (د): «نحلةً لأنَّه».
[12] في (د): «عرضٍ» ولعلَّه تحريفٌ.