إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

باب {وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به}

          ░15▒ هذا (بابٌ) بالتَّنوين في قوله تعالى: ({وَإِذَا جَاءهُمْ}) أي: ضعفاء المؤمنين أو المنافقين ({أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ}) كفتحٍ أو غنيمةٍ ({أَوِ الْخَوْفِ}) كقتلٍ وهزيمةٍ عن سرايا رسول الله صلعم وبعوثه ({أَذَاعُواْ بِهِ}[النساء:83] أَيْ: أَفْشَوْهُ) بين النَّاس قبل(1) أن يُخبَر به الرَّسول صلعم ، فيضعُفُ بذلك قلوب المؤمنين، ولو ردُّوا ذلك الأمر إلى الرَّسول وإلى كبار الصَّحابة العارفين بمصالح الأمور ومفاسدها؛ لعَلِم تدبيرَ ما أخبروا به الذين ({يَسْتَنبِطُونَهُ}[النساء:83]) أي: (يَسْتَخْرِجُونَهُ) وفيه إنكارٌ على من يُبَادر إلى الأمور قبل تحقُّقها، فيُخبِر بها ويفشيها وينشرها، وقد لا يكون لها صحَّةٌ، وفي حديث أبي هريرة مرفوعًا: «كفى بالمرء إثمًا أن يحدّث بكلِّ ما سمع» رواه مسلمٌ، وسقط التَّبويب وقوله: «{وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ}» لغير أبوي ذرٍّ والوقت، ولغير أبي ذرٍّ لفظة: «أي» من قوله: «أي: أفشوه».
          ({حَسِيبًا}) يريد قوله تعالى: { إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا}[النساء:86] أي: (كَافِيًا) وسقط هذا لأبي ذرٍّ.
          ({ إِلاَّ إِنَاثًا}) يريد قوله تعالى: {إِن يَدْعُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ إِنَاثًا}[النساء:117] أي: ما يعبدون من دون الله إلَّا إناثًا؛ لأنَّ كلَّ من عبد شيئًا فقد دعاه لحاجته، و {إِنَاثًا} (يَعْنِي: المَوَاتَ حَجَرًا أَوْ مَدَرًا وَمَا أَشْبَهَهُ) قال الحسن: كلُّ شيءٍ لا روح فيه كالحجر والخشبة(2) هي إناثٌ، وقد كانوا يُسمُّون أصنامهم بأسماء الإناث، فيقولون: اللَّات والعزَّى ومناة، وعن الحسن: إنَّ لكلِّ قبيلةٍ صنمًا يُدعَى أنثى بني فلانٍ؛ وذلك لقولهم: إنَّهنَّ بنات الله، أو قولهم: الملائكة بنات الله، وإنَّما نعبدهم ليُقرِّبونا إلى الله زلفى، اتَّخذوا أربابًا وصوَّروهنَّ صور الجواري، وقالوا: هؤلاء يُشبِهن بنات الله الذي نعبده؛ يعنون: الملائكة. وعن كعبٍ في الآية قال: «مع كلِّ صنمٍ جنيَّةٌ» رواه ابن أبي حاتمٍ، وسقط لفظ «يعني» لغير أبي ذرٍّ.
          ({مَّرِيدًا}) يريد قوله تعالى: {وَإِن يَدْعُونَ} أي: ما يدعون(3) بعبادة الأصنام {إِلاَّ شَيْطَانًا مَّرِيدًا}[النساء:117] أي: (مُتَمَرِّدًا) قال قتادة فيما رواه ابن أبي حاتمٍ: متمردًا على معصية الله تعالى، قال تعالى: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لَّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ}[يس:60] وسقط قوله: «{مَّرِيدًا}: متمرِّدًا» للكُشْمِيهنِيِّ والحَمُّويي.
          ({فَلَيُبَتِّكُنَّ}) هو من حكاية قول الشَّيطان في قوله تعالى: {وَقَالَ (4) لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَّفْرُوضًا}‼ أي: حظًّا مقدَّرًا معلومًا {وَلأُضِلَّنَّهُمْ} أي: عن طريق الحقِّ {وَلأُمَنِّيَنَّهُمْ} من طول العمر وبلوغ الأمل وتوقُّع الرَّحمة للمذنب بغير توبةٍ، أو الخروج من النَّار بالشَّفاعة {وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ}[النساء:118-119] (بَتَّكَهُ) أي: (قَطَّعَهُ) وقد كانوا يشقُّون أُذُنَي النَّاقة إذا ولدت خمسة أبطنٍ وجاء الخامس ذكرًا، وحرَّموا على أنفسهم الانتفاع بها، ولا يردُّونها عن ماءٍ ولا مرعًى.
          ({قِيلاً}) يريد قوله تعالى: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّهِ قِيلاً}[النساء:122] والنَّصب على التَّمييز، و{قِيلاً} (وَقَوْلًا: وَاحِدٌ) وقالًا الثَّلاثة مصادرٌ بمعنًى(5).
          (طُبِعَ) بضمِّ الطَّاء وكسر الموحَّدة، أي: (خُتِمَ) يريد تفسير قوله تعالى: {طَبَعَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ}[النحل:108].
          ولم يذكر المؤلِّف حديثًا في هذا الباب، قال الحافظ ابن كثيرٍ: فَنَذكُر(6) هنا _يعني: عند تفسير آية الباب_ حديث عمر بن الخطَّاب ╩ المتَّفق عليه: «حين بلغه أنَّ رسول الله صلعم طلَّق نساءه، فجاء(7) من منزله حتَّى دخل المسجد، فوجد النَّاس يقولون ذلك، فلم يصبر حتَّى استأذن على النَّبيِّ صلعم ، فاستفهمه: أطلَّقت نساءك؟ قال: لا. فقلت: الله أكبر» وذكر الحديث بطوله [خ¦89] [خ¦5191] وعند مسلمٍ: «فقلت: أطلَّقتهنَّ؟ فقال: لا، فقمت على باب المسجد، فناديت بأعلى صوتي: لم يطلِّق نساءه، ونزلت هذه الآية: {وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ}[النساء:83] فكنت أنا(8) أستنبط(9) ذلك الأمر» قال الحافظ ابن حجرٍ: وهذه القصَّة عند / البخاريِّ، لكن بدون هذه الزِّيادة، فليست على شرطه، وكأنَّه(10) أشار إليها بهذه التَّرجمة. انتهى. وظاهر قول المفسِّرين السَّابق: أنَّ سبب نزول هذه الآية الإخبار عن السَّرايا والبعوث بالأمن أو الخوف، وهو خلاف ما في حديث مسلمٍ.


[1] «النَّاس قبل»: سقط من (د).
[2] في (د): «والخشب».
[3] في (د): «يعبدون»، ولعلَّه تحريفٌ.
[4] «تعالى: {وَقَالَ}»: ليس في (ص).
[5] زيد في (ص): «واحدٍ».
[6] في (د): «ويذكر».
[7] في (د): «فجاءه».
[8] «أنا»: ليس في (م).
[9] في (د): «استنبطت».
[10] في (ب) و(س): «فكأنه».